العميد الدكتور عبدالناصر فرزات
الحرب، هي استمرار السياسة بأسلوب القوة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية والسياسية. ويمكن تصور الحرب على مدى العصور الماضية بأنها صراع بين جهتين متحاربتين، أما ان تكون حروب متكافئة او غير متكافئة. وقد اسُتخدم التأمر والدهاء لأحراز النصر في مختلف الحروب وعلى مدى التاريخ، أي ان فكرة المؤامرة ليست وليدة العصر الحالي بل هي موجودة في التاريخ، وهي عنصر محرك للأحداث، وأداة تُستخدَم في الصراعات، ولا يوجد حروب خالية من المؤامرات… بدءاً من الحروب القديمة ومرورا بالحرب العالمية الثانية وحروب المعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ضد المعسكر الاشتراكي الشيوعي الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي… وانتهاءً بالحروب الحالية وحروب المنطقة العربية وبشكل خاص اليوم في بلاد الشام.
والأن لنعود الى الحرب في منطقتنا أسبابها واسلوبها، بلا شك ان أسباب هذه الحرب هي محاولة سيطرة القطب الواحد على مقدرات العالم والتحكم بها والقضاء على كافة القوى التي يمكن ان تقف مستقبلا ضد هذا القطب، والسيطرة على كافة مقدرات المنطقة الاقتصادية والحيوية، وهذا يتطلب السيطرة على اهم المناطق ذات الموقع الجغرافي المتميز (بلاد الشام وما حولها)، وهذا يتطلب تشويه مفهوم الحضارة الإسلامية واخلاق الانسان النبيلة في منطقتنا وتشويه مفاهيم الدين الإسلامي الحنيف.
كيف يتم ذلك او ما هو الأسلوب الُمتبع؟ هذا ما اوضحته بدقة مؤسسة راند الأمريكية، التي نشرت عدة تقارير حول السياسة الأمريكية في المنطقة تضمنت ألية عمل السياسة الامريكية وكيفية تنفيذها، لنتابع بعض ما جاء في هذه التقارير.
نشرت مؤسسة راند (البحثية التابعة للقوات الجوية الأمريكية) في البداية تقريراً يتضمن مفهوم مؤامرة معلنة مبطنة، يحمل عنوان: «بناء شبكات مسلمة معتدلة Building Moderate Muslim Networks»، وهذا واضح انها ارادت ان تُحدث خللاً وسط العالم الإسلامي “وخاصة العربي” وتُجند ضعاف النفوس لصالحها وذلك بأساليب الاغراء. وقد نشر الدكتور باسم خفاجي مدير المركز العربي للدراسات الإنسانية في أمريكا تقريراً حول الاستفادة من خبرات الحرب الباردة السابقة وألية تفتيت الاتحاد السوفياتي والعالم الشيوعي، ومن أجل الصراع بين الغرب والإسلاميين واحتواء الحركات الإسلامية، ويتم ذلك بتجنيد فئة من المثقفين الإسلاميين ورجال الدين، الذين يقبلون الفكر الغربي بدون تحفظ، ويقترح التقرير استخدام القطاع الخاص الأميركي للتواصل معهم وتنفيذ المخطط وليس المؤسسات الحكومية، وذلك لإبعاد الشبهة عن مؤسسات الدول وسياستها والعمالة عن المسؤولين المتعاونين معهم في تلك الدول.
كما يدعو الى تحويل الصراع ليصبح بين العالم العربي المسلم وبين دول أخرى إسلامية غير عربية، حيث يصبح الصراع بين الإسلاميين أنفسهم. ونتيجة لذلك فقد بدأت المؤسسات التعليمية والبحثية والإعلامية الغربية والأمريكية خاصة بمحاولة تغيير مفاهيم الشباب نحو الحضارة الغربية المستوردة وتجاهل وتشويه المفاهيم والأفكار والأنظمة الاجتماعية العربية والإسلامية الأخلاقية السامية.
من هو المسلم المعتدل المستهدف كما تُصنفه راند؟،
هم المسلمون الليبراليون والمعتدلون (Moderate and liberal Muslims) الموالون للغرب المثقفون بالثقافة الغربية، الذين لا يؤمنون بضرورة الالتزام بالشريعة الإسلامية، المؤمنون بحرية المرأة او الفتاة في الاختيار والتعايش مع الزميل (أو العشيق) وليس الزوج الشرعي، ولم يكتف التقرير بذلك بل حدد عشر نقاط رئيسة لتحديد درجة اعتدال المسلم المستهدف (سنذكرها لاحقاً). وبالتالي فان راند تُروج لتيارين دينيين إسلاميين فقط هما: التيار التقليدي أي تيار المواطن البسيط الذي يكتفي بأداء الصلاة بصورة روتينية وليس له أدنى اهتمامات أخرى، وتيار متأسلم يقبل الفكر الغربي ويعمل لنشره. اما المسلم الحقيقي المتمسك بتعاليم دينه ويحافظ على اخلاقه السامية ويعتز بحضارته وانتمائه الوطني فلا مكان له في سياسة راند ولا السياسة الأمريكية، وهم من يجب على الغرب تشويه أفكاره واخلاقه ومحاربته.
وهكذا بدأت المرحلة العملية بتخدير العقول وتشويه المقدرات الدينية والوطنية، لتحل محلها مصطلحات الديموقراطية الغربية والإباحية الفوضوية وغيرها من المفاهيم التي يقبلها بعض رجال الدين المُستهدفين. وقد تمت العديد من الدراسات لاختيار أفضل الحلول لتجاوز التحديات التي يمكن ان تعترض تنفيذ هذه السياسة في العالم العربي، والتي يعتبر أهمها تجاوز المفاهيم والأخلاق الاسلامية في المنطقة، لان هذا الشعب يملك مقوماته وثقافاته الخاصة منذ الفتوحات الاسلامية.
وقد وجد ان أفضل الحلول، هو انه يجب على الولايات المتحدة ان تؤمن الدعم المادي والمعنوي لعملائها، واعتماد أسلوب حرب الأفكار وفرض الدمقرطة والحكم الرشيد، ودعم المجتمع المدني، ودعم التحرير السياسي والاقتصادي، وتغيير المناهج التعليمية والتثقيفية. من اجل ذلك لا بد من اختيار او تحديد الإسلاميين المعتدلين للعمل معهم واعتبارهم شركاء (على مستوى الأشخاص والحكومات). وقد وضعت الدراسة بعض المعايير الرئيسية التي يمكن من خلالها تحديد ماهية الإسلاميين المعتدلين، والتي يُعتبر أهمها (وفقاً لراند):
- القبول بالديمقراطية: يعتبر قبول قيم الديمقراطية الغربية مؤشراً مهماً للتعرف على الإسلاميين المعتدلين،
- القبول بالمصادر غير المتعصبة في تشريع القوانين
- احترام حقوق النساء والأقليات الدينية
- نبذ الإرهاب والعنف كما يُريده الغرب
من أجل ذلك تضع الدراسة مجموعة من الأسئلة لاختبار اعتدال أي جماعة إسلامية أهمها:
– هل الجماعة تتساهل مع العنف أو تمارسه؟ وإذا لم تكن تتساهل معه فهل مارسته في الماضي؟
– هل الجماعة تؤيد الديمقراطية باعتبارها حق من حقوق الإنسان؟
– هل تحترم الجماعة كافة القوانين والتشريعات الدولية لحماية حقوق الإنسان؟
– هل لديها أية استثناءات في احترام حقوق الإنسان؟
– هل تؤمن بأن تغيير الديانة أحد حقوق الإنسان؟
– هل تؤمن بضرورة أن تطبق الدولة قانوناً جنائياً (الحدود) يتطابق مع الشريعة الإسلامية؟
– هل تؤمن بضرورة أن تفرض الدولة قانوناً مدنياً متلائما مع الشريعة؟
– هل تؤمن بحق الآخرين في عدم الاحتكام بمثل هذا القانون والرغبة في العيش في كنف قانوني علماني؟
– هل تؤمن بضرورة أن تحصل الأقليات الدينية علي نفس حقوق الأغلبية؟
– هل تؤمن بحق الأقليات الدينية في بناء دور العبادة الخاصة بهم في البلدان الإسلامية؟
– هل تؤمن بأن يقوم النظام القانوني علي مبادئ غير دينية؟
شجعت الدراسة الآراء والأفكار للفرق المُبتدعة، بتحديث الإسلام المستقبلي الذي يسود فيه الباطل ويُغيب فيه الحق (وفقاً لـ راند)، وتشجيع ودعم المجتمعات التي ينمو فيها النفاق، والتضيق على المساجد وتحجيم دورها باعتبارها البيئة التي تبني الانسان السليم وتحارب النفاق والكفر والديمقراطية الغربية. يعتمد نجاح دور هذه الخطة على إخلاص المؤسسات والحكومات الصديقة (الشركاء) في تبني تغيير الثقافة من الداخل، إيمانا منهم بدور النفاق لصالح الأجندة.
ان قراءة تحليله للتقرير تُجيب عن كافة التساؤلات حول قضايا ووضع مجتمعاتنا في الوقت الراهن والتي نذكر منها:
لماذا يجري التغيير الاجتماعي بالقوة في مجتمعاتنا؟
لماذا العمل على زيادة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية من خلال القضاء على الطبقة الوسطى، الممولة للأعمال الدعوية والإغاثية في اغلب المجتمعات المسلمة؟
لماذا تنهب أموال الناس في وضح النهار؟
لماذا الفساد الإداري والقضائي في العالم الإسلامي؟
لماذا تشغل ساحات الثقافة بـعصرنة الإسلام وليس بأسلمة العصر؟
لماذا يقف الإعلام الرسمي في وجه القيم والأخلاق؟
لماذا تتزايد البطالة في صفوف الشباب الذكور، وثقافة الحرية الشخصية؟
هذه مقتطفات مما جاء في دراسات وتقارير راند.
الخاتمة ورأي، ما هو المطلوب منا:
- العمل على هزيمة الأفكار المادية والسلبية، وعدم السماح بانتشارها في مجتمعاتنا، ونشر الوعي الفكري السياسي والاجتماعي بين ابناء الشعب كافة من خلال مفكرين وسياسيين من اصحاب الحجة الواضحة والادلة البينة وتعرية السياسات الغربية اتجاه مجتمعنا
- العمل على دعم وبناء الاخلاق الحميدة في مجتمعاتنا والالتزام بها قولا وعملاً، ومحاربة الوصولين والمُتأسلمين السياسيين وكف اذاهم
- العمل على بناء الانسان السليم، ووضع كل مورد بشري في مكانه الحقيقي حسب امكانياته وخبراته وكفاءاته لزيادة وعي المجتمع
- بناء مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني على اسس سليمة وصحيحة تعتمد على الخبرات والكفاءات والقدرات والعمل على استقطاب اصحاب الفكر المتجدد
- تشجيع علماء الدين الحقيقيين لنشر الدين الاسلامي الصحيح ومحاربة التطرف ومنع الخلل في الاصول الشرعية
- العمل على نشر فكر التعاون والتأخي بين ابناء المجتمع وزيادة المحبة والايخاء بينهم
- بناء مراكز دراسات وابحاث استراتيجية لدراسة الأبحاث الغربية الموجهة، والرد عليها بأبحاث فاضحة للسياسات والافكار الغربية، ونشر الفكر السليم بين صفوف الشباب.
…………………………………………………………………
المصدر، تقرير مؤسسة راند في نـهاية شهـر مـارس من عـام 2007م (ربيـع الأول 1428هـ) بعـنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة) Building Moderate Muslim Networks، وهو تقرير متمم لسلسلة التقارير التي بدأ هذا المركز الفكري لمواجهة العالم الإسلامي