
حسن النيفي
مُنِيتْ الثورة السورية خلال السنوات الثماني الفائتة بنكسات عديدة مؤلمة، لعلّ أبرزها مجزرة الكيمياوي التي ارتكبها نظام الإجرام الأسدي بحق سكان الغوطة في آب/ أغسطس 2013، وانتهت فيما يُعرف بـ (صفقة الكيمياوي) بين بوتين وأوباما، وكذلك اقتحام حلب الشرقية وتهجير أهلها في مطلع العام 2017، وسيطرة قوات النظام على الغوطة واجتثاث أهلها الأصليين وبعثرتهم في الشتات في أيار/ مايو 2018 ، ثم تمكين الروس لنظام الأسد من السيطرة على مدينة درعا وتهجير ما تبقى من الفصائل العسكرية التي رفضت إقامة مصالحات مع النظام في آب/ أغسطس 2018. وفي أعقاب كل كبوة من تلك الكبوات، يعوم السوريون في موجة صاخبة من اللغط وتوجيه الاتهامات وسيولة الأقاويل غير المنضبطة، لعلّ مبعثها الرئيسي هو حالة الإحباط والانكسارات النفسية لدى جمهور الثورة من السوريين.
ولعلّ السؤال الأهم: أما آن لنا أن نحاول عقْلَنةَ أحزاننا وردود أفعالنا؟ ليس بهدف إلغائها أو منْعها من الظهور، فذلك مخالف لطبيعة النفس البشرية وفطرتها، ولكن بهدف ضبطها في سياقها الطبيعي، دون السماح لها أن تكون موجّها أساسياً للتفكير والسلوك معاً، وللحيلولة دون الاستغراق بلعْن الذات، والسخط على العالم جميعه، دون إدراك واضح للتداعيات الواقعية للمشكلة.
منذ منتصف شهر نيسان الماضي تشهد منطقة إدلب والريف الشمالي من حماة، تصعيداً عسكرياً شديداً من جانب قوات الأسد مدعومةً من الروس والإيرانيين، تحت ذريعة استهداف الفصائل الإسلامية المتشددة (هيئة تحرير الشام وملحقاتها)، والتي لم تستطع تركيا تفكيكها أو استئصالها بحسب تفاهمات أستانا. إلّا أن ما يجري في الواقع هو حربٌ وحشية مازالت تستهدف السكان والبنى التحتية وكافة المرافق الحياتية للمدنيين، ولم يخفِ بوتين الغاية الجوهرية من وراء حربه العدوانية، إذ أعلن ومازال عن وجوب سيطرة قوات نظام الأسد على كافة الأراضي السورية، ولن يحول اتفاق خفض التصعيد الذي تم التوقيع عليه بتاريخ 4 أيار/ مايو 2017 بين الدول الضامنة لمسار أستانا (تركيا، وروسيا، وإيران)، دون هذه الغاية، ألم تكن الغوطة ودرعا مشمولتين بمناطق خفض التصعيد؟ والآن ادلب، وهي المنطقة الرابعة المشمولة بهذا الاتفاق، فلماذا لا تكون كسابقاتها وفقاً لبوتين.
لقد أوجد الروس مسار أستانا في مطلع العام 2017، كمسار يُعنى بالشأن الميداني والإنساني، ثم أفلحوا في جعله مساراً بديلاً عن جنيف، كما تمكنوا من إيجاد غطاء أممي له من خلال إقناع الأمم المتحدة بالتفاعل مع سياقاته عبر حضور وتفاعل المبعوثين الدوليين، السابق ديمستورا، والراهن غيربيدرسون مع معطيات هذا المسار.
حصيلة مسار أستانا بعد مضي ما يقارب سنتين ونصف من بدايته، وبعد انعقاد اثني عشر لقاءً دورياً من لقاءاته، هو استعادة النظام لكامل سيطرته على حلب الشرقية والغوطة وكامل الريف الدمشقي، ودرعا، والآن يتوجه الروس نحو اقتحام المنطقة الرابعة (إدلب)، وذلك عبر نهج عسكري وسياسي كان شديد الوضوح. لا شك على الإطلاق بالنهج الإجرامي لبوتين، إلّا أنه كان سافراً لا يحتاج إلى تخمين، وإنْ كان ثمة مشكلة، فأعتقد أنها تكمن في فهم وسلوك الوفود المفاوضة باسم المعارضة السورية، ولبيان بعض جوانب هذه الإشكالية، لا بدّ من ذكر بعض الحقائق:
أولاً – انعقد أول لقاء لأستانا بتاريخ 23 – كانون الثاني 2017، وتم الاتفاق فيه على وقف إطلاق النار، أما الذين وقعوا على هذا الاتفاق هم وفد المعارضة فقط، والذي ضم عدداً من قادة الفصائل العسكرية، وعدداً من السياسيين والقانونيين، أمّا الجانب الروسي فلم يوقع على اتفاق وقف إطلاق النار، واكتفى بوعد شفهي فقط، وحين ألحّ وفد المعارضة على أن يكون الوعد الروسي مكتوباً رفض المسؤولون الروس ذلك الطلب. فالجانب المُلزم بوقف إطلاق النار هو المعارضة السورية فقط، وليس الروس، وفقاً لما تم التوقيع عليه.
ثانياً – لقد رفضت هيئة التفاوض في المعارضة السورية مسار أستانا في بداياته، ثم اتهمته على أنه محاولة روسية للالتفاف على قرارات جنيف، ولكنها ما لبثت -بالتدريج- إلى أن تماهت مع مخرجاته حتى نهاياتها، وذلك منذ قبولها بفكرة “السلال الأربع” ثم اختزال هذه السلال بسلة واحدة (لجنة الدستور)، ثم التعويل على فكرة “البيئة الآمنة” كبديل عن مفهوم الانتقال السياسي، أو هيئة الحكم الانتقالي، وأخيراً الرضوخ للعبة المماطلة التي يمارسها الروس في تشكيل اللجنة الدستورية، بحجة الخلاف حول تمثيل ستة أشخاص من قائمة منظمات المجتمع المدني، بينما الأمر في واقع الحال، لا يعدو كونه استثماراً روسياً لمزيد من الوقت، ريثما تتم السيطرة عسكرياً على أكبر قدر من الجغرافية السورية.
ثالثاً – يؤكد القرار الدولي 2254 في عدد من بنوده (12، و13، و14) عن ضرورة الإفراج عن المعتقلين والمغيّبين، وفك الحصار عن المدن والبلدات المحاصرة، وإيصال المساعدات اللازمة لهم، وتُعدّ هذه البنود ملزمة وغير تفاوضية، وكان من المفترض ألّا يتم التفاوض في أي شأن سياسي أو عسكري حتى يتم الشروع بتنفيذ البنود الإنسانية المذكورة، ولكن مع ذلك تجاوزت وفود المعارضة السورية هذه المسألة، واستمرت بالتزامها بمسار المفاوضات.
رابعاً – على الرغم من الخروقات المتكررة والفظيعة للروس وقوات النظام بمجمل القرارات القاضية بوقف إطلاق النار، واجتياحهم للغوطة ودرعا، والآن إدلب، لم نشهد أي ردّة فعل حقيقية من جانب مفاوضي المعارضة، كالتهديد بتعليق عملية التفاوض، أو بمقاطعة أستانا أو سوى ذلك، بل ما شهدناه أن غداة أي لقاء من لقاءات أستانا يصدّرون موجة من التفاؤل الموهوم، غالباً ما تعقبها كوارث وخيمة، ولعل آخر موجات هذا التفاؤل الخادع صدرت على لسان رئيس وفد أستانا “أحمد طعمة” في إحدى لقاءاته الإعلامية يوم 22 نيسان/ أبريل الماضي، أي قبل انعقاد لقاء أستانا الأخير بثلاثة أيام فقط.
ما يجب تأكيده، أن معظم ما حلّ، وما يمكن أن يحلّ بنا من مآسٍ وخذلان وقتل ودمار وانتكاسات، لم يكن ليحدث فجأةً، وإنما وفقاً لمقدمات محسوسة كنا جميعاً نشاهد تداعياتها، وهذه المقدمات أفضت إلى النتائج الراهنة، ولعلّ الشرط الموضوعي لتجاوز الأزمة -أي أزمة- للانتقال من حالة ردّة الفعل العاطفية، إلى حيّز المعالجة الموضوعية، هو ضرورة وعي الأزمة بالدرجة الأولى.
ما من شك في أن أيّ عاقل، ليس بمقدوره نكران العوامل الخارجية التي كان لها دور كارثي على الثورة السورية، سواء منها التدخلات العسكرية أو صراع المصالح الإقليمية والدولية، أو الخروقات الفادحة لقوى الإسلام السياسي لصفوف قوى الثورة، ولكن في الوقت ذاته، ما من سوريٍّ مخلص لثورته، وغيور على دم أهل بلده، يمكن له أن يتجاهل أنّ هذه العوامل الخارجية المدمّرة للثورة لا تعمل بمفردها، وإنما تتكئ على حوامل داخلية سورية، مازالت تدّعي أنها هي الناهضة بأعباء الثورة، والساعية لتجسيد تطلعات السوريين، في الوقت الذي لم نرها فيه، وخلال ثماني سنوات، سوى أنها متماهية في سلوكها، وملتزمة في مسعاها، نحو ما يريده أعداء الثورة.
ثمة مَن يرى أنّ أيّ محاولة تهدف إلى استئصال العطب، ما هي في الوقت الراهن سوى خدمة للخصم، وأعتقد أنه إنْ ظل العطب متجذّراً فسوف يُجهز الخصم على جميع ما تبقى لدينا، فما الذي بات يخشى عليه السوريون ولم يُعتدى عليه؟
الثورة أطلق شرارتها السوريون الشرفاء، ودفع ثمن كبواتها وتعثراتها السوريون أنفسهم، ومَن توخّى نصراً لهذه الثورة فلن يكون إلّا بجهود أبنائها المخلصين، وليس العابثين و”المعتاشين”.
بروكار