المصدر بروكار

أسامة آغي

يمكن تسمية المعارك الجارية في مناطق شمال حماة وجنوبي إدلب أنها عملية عضُّ أصابع مؤلمة، فالذي يحدث هناك يعكس بالضرورة مأزق “أستانا” في نسخته الـ12، فالروس الذين يريدون تحقيق المكاسب تحت يافطة الضغط العسكري، وتحديداً مكاسب فتح الطريقين الدوليين (M4، وM5)، لم يستطيعوا هذه المرّة تحقيق نتائج مرضية لهم على الأرض في هذا الاتجاه.

الروس الذين يمارسون طريقة هنري كسينجر المشهورة باسم “سياسة الخطوة خطوة”، لم يستطيعوا الاستثمار فيها هذه المرّة، فهم لم يقدّموا تنازلات ملموسة بشأن تشكيل اللجنة الدستورية والدفع بمفاوضات جنيف إلى عتبة السلال الأربع للضامن التركي. وهذا يكشف عن إصرارهم على الاستمرار بسياسة فرض الرؤية الروسية لحلّ الصراع السوري. هذه الرؤية التي تقوم على مبدأ إعادة إنتاج النظام وتعويمه وتسويقه دولياً.

الروس اعتقدوا أن دعمهم للنظام الأسدي بغطاء ناري جوي ومساندة أرضية من الميليشيات التابعة لهم، سيربك فصائل المعارضة العسكرية، ويربك كذلك الضامن التركي، ويسمح لهم بامتلاك أوراق تفاوض إضافية.

هذه الممارسة الروسية ذهبت بالأمور إلى مرحلة عضّ الأصابع بينهم وبين الأتراك، فهم أرادوا استغلال الأوضاع المتأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين تركيا، ليمرّروا رؤيتهم وضغوطهم على الأخيرة. وهذا اتضح من خلال قيام الروس بخرق اتفاق أستانا والمسمى “اتفاق خفض التوتر والتصعيد”، والذي تتبناه الدول الثلاث الضامنة (روسيا تركيا إيران).

غفل الروس عن أمرٍ جوهري في ممارستهم لسياسة “الخطوة خطوة”، والتي اعتمدوا عليها في مناطق سورية أخرى كالجنوب السوري والغوطة الشرقية ومناطق حمص. حيث أغفلوا بصورة تقديرية خاطئة موقف الضامن التركي من عملية التصعيد في شمال حماة وجنوب إدلب.

الموقف التركي أساسه في أستانا هو نقل كل ملفات الاتفاق فيها إلى جنيف لتنفيذ القرار الدولي الذي وقعته روسيا في نهاية عام 2015. إذ أن الأتراك صرّحوا بمناسبات كثيرة أنهم يعتبرون مفاوضات جنيف وفق القرارات الدولية هي المخرج النهائي للصراع في سورية.

إلا أن المراهنة الروسية عبر الضغط العسكري في مناطق الصراع الحالية في حماة وإدلب، جعلتهم يقدّرون خطأً ردّ الفعل التركي على احتلال قوات النظام والميليشيات التابعة لهم والمسماة ميليشيات “النمر”، لأراضٍ تابعة للمعارضة في منطقة خفض التوتر والتصعيد الرابعة. فالأتراك كانوا يصرّون على انسحاب قوات النظام وحلفائها من المناطق التي احتلوها كقلعة المضيق وبلدة كفر نبودة، لكنّ الروس رفضوا التراجع عن ذلك، وهو الأمر الذي دفع بفصائل المعارضة السورية وبدعم تركي على العمل على استعادة هذه المناطق عبر هجمات عسكرية عليها. هذه الهجمات كشفت عن خللٍ عميقٍ في الرؤية الروسية حيال تقدير حجم ردّ فعل الضامن التركي على المعارك الأخيرة.

إن ما جرى على أرض الواقع يقول إن الروس دخلوا صراعاً عسكرياً، لن تكون نتائجه في مصلحتهم على المديين القريب والاستراتيجي، وهذا يعني أن عليهم إعادة النظر باستراتيجيات بوتين – لافروف، التي سقطت على أرض شمال حماة. سيّما وأن التحضيرات الأمريكية بالضغط الشديد على إيران بدأت تأخذ أبعاداً جدية، ستجعل من إيران في حالة شللٍ اقتصادي وعسكري فيما بعد، مما يضعف الدور الإيراني في ملف الصراع السوري، والذي سينعكس بكل تأكيد على الدور الروسي في هذا البلد.

إن المعارك الأخيرة في شمال حماة والمستمرة حتى اللحظة، تكشف عن وضعين أحلاهما مرُّ بالنسبة للروس. فهم عليهم القبول بانسحاب قوات النظام إلى خارج المناطق التي تمّ احتلالها في بداية المعارك هناك، وهذا يعني تنازلاً جوهرياً على مستوى سياساتهم المتبعة، وخسارة جوهرية في أوراق التفاوض التي يمتلكونها، أو عليهم القبول بحرب استنزاف طويلة لا تحتملها السياسة الروسية في هذا البلد، والتي قد تتحول إلى منزلق خطير يذكّر بمنزلق أفغانستان في سبعينات القرن العشرين.

إن محاولة روسيا الإمساك بأوراق تفاوض سورية جديدة قد وصلت إلى مرحلة الفشل الصريح، فالروس لن يتورطوا في حرب حقيقية مع الدولة التركية القوية عسكرياً واقتصادياً، والتي لا تزال على علاقات مع الولايات المتحدة، وهذا مؤداه إعادة النظر بسياستهم بالملف السوري، سيما وأن اجتماعات قريبة ستجمعهم مع الأمريكيين والاسرائيليين لتقرير سياسة إخراج إيران من مناطق نفوذها الإقليمي. الأمر الذي سيجعل من حليفهم النظام السوري عبئاً سياسياً عليهم أمام طيف واسع من القوى الدولية الفاعلة كإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية إضافة إلى تركيا.

الحال الروسية هذه تتزامن مع قرب اتفاق أمريكي تركي يخصّ مناطق شرق الفرات، وهو يعني خلط الأوراق السياسية السابقة وإعادة وضع ترتيبات جديدة لها. الأمر الذي يتطلب إعادة ترتيب وضع الهيئة العليا للانتخابات في المدى القريب بما يتناسب مع احتمال حصول الاتفاق الأمريكي – التركي شرق الفرات، وترجمة ذلك تكون عبر تغييرات تشمل بنية هيئة التفاوض مما يعني عقد مؤتمر “الرياض 3”.

إذاً، نحن أمام دبلوماسية دولية جديدة بدأت ملامحها تظهر علناً. هذه الدبلوماسية تأخذ شكل موجات ضغوطات متتالية ضد إيران وحلفائها الإقليميين، وهذا ما يجعل الروس في حالة تخبط كبرى أمام هذه الدبلوماسية، وما سينتج عنها من خطوات اجرائية لاحقة. الروس لن يقدروا على تفكيك ومواجهة الديبلوماسية الأمريكية حيال إيران، وهذا يحتّم عليهم اتخاذ أحد موقفين، إما الانضمام بصيغة ما إلى التحالف الأمريكي ضد إيران، أو الدفاع عن إيران، والدفاع هنا يحتاج إلى مقدراتٍ اقتصادية وعسكرية ميزانها راجح بشدّة لمصلحة الولايات المتحدة. لذا من الممكن أن يخطو الروس خطوات جدية في تبديل سياساتهم حيال ملف الصراع في سورية والمنطقة، وهم يدركون أن هناك ارتباطات وتشابكات بين هذه الملفات الشرق أوسطية، ولعلّ أهم خطوة قريبة ممكنة هي موافقتهم على تشكيل اللجنة الدستورية والضغط الكبير على النظام للقبول بمفاوضات جنيف التي ستطيح برأسه في كل الحالات.

إننا أمام تبدلات سياسية تتراكم يومياً في ملف الصراع السوري، وهو ما ينبغي قراءته جيداً والبناء عليه، بما يخدم حل الصراع السوري وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالشأن السوري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *