نسبة عالية من مجموع اللاجئين السوريين والعراقيين في النمسا هم من الأكاديميين والمثقفين وأصحاب الحرف والخبرات العالية في مجالاتهم. لكن للأسف الشديد كثيرون منهم لا يعملون في مجالاتهم وتخصصاتهم، بل في مجالات بعيدة كل البعد عن تخصصاتهم على الرغم من خبراتهم وتمكنهم في مجالاتهم.
كثيرون منهم يشعرون -للسبب المذكور أعلاه- بعدم انتمائهم إلى البلد المقيمين فيه، لصعوبة -وبعض الأحيان استحالة- إيجاد فرصة عمل في مجالهم الحرفي والعلمي. إضافة إلى سبب مهم جداً يتعلق بصحتهم النفسية فآثار الحرب قد تركت لديهم جرحاً عميقاً. بعضهم قد لجأ إلى أطباء نفسيين ومنظمات تعنى بالصحة النفسية ولكن العمل على مداواة هذا الجرح يحتاج إلى وقت طويل، ليس لكي يشفى هذا الجرح أو يلتئم، بل ليحاول هذا الشخص المصاب بما يسمى بالصدمة النفسية التعايش مع هذه التجربة المرّة من حياته ويعيد الثقة بمن حوله لأن هذا المرض النفسي له تأثيرات جانبية لا على المريض وحده، بل على محيطه وعلى المجتمع وعلى اندماجه فيه.
لا ينتج هذا المرض من آثار الحرب فحسب، إنما أيضاً من رؤية منظر وحشي يمارس على أبرياء، كالاغتصاب، أو فقد إنسان عزيز، أو رحلة لجوء خطرة، أو ضياع مستقبل مهني ناجح والبداية من مرحلة الصفر، إضافة إلى كثير من الأسباب التي تؤدي الصدمة النفسية.
من خلال ملاحظتي ومتابعتي سلوك السوريين والإخوة العراقيين وتصرفاتهم في المجتمع عموما ودورات اللغة الألمانية ومراكز آخرى كثيرة عليَّ أن أشير إلى أنهم ذوو حافزٍ عالٍ ونشاط منقطع النظير وهمة عالية. إنهم يبذلون قصارى جهدهم ليس فقط لأجلهم وأجل تطورهم وبناء مستقبل جيد لهم ولأبنائهم، بل من أجل إعطاء صورة جميلة ومشرفة عن بلادهم وأبناء جاليتهم، على الرغم من كل الذي تعرضوا له من تجارب قاسية في أثناء الحرب وبعد رحلة الموت “اللجوء” الصعبة جداً نفسياً وجسدياً.
بعضهم يرى في النمسا نموذجا ليصبح قدوة فيها للنمساويين أنفسهم، إذ يضرب المثل بهم لخلقهم النبيل وعملهم المتقن ومثابرتهم التي هي أيضاً في رأيي الشخصي أمر عظيم ويدعو إلى الفخر بهم وبسوريتنا الغالية وعراقنا العظيم.
فكلٌ منّا ذو قيمة ليس فقط في نظر المجتمع بل في نظرنا أيضاً. إنّ هذه النسبة من الباحثين عن العمل هي نسبة لا بأس بها من اللاجئين.
علاوةً على العمل والاندماج في المجتمع النمساوي توجد حركة ثقافية أدبية لامثيل لها. فبعض السوريين “طلبة الجامعة والأدباء السوريين” قد أسسوا منظمات صغيرة إلى حدٍ ما لتشجيع الأدباء والمثقفين والكتّاب على مواصلة إبداعهم ومواكبة الحركة الأدبية والثقافية لأبناء الجالية العربية.
جدير بالذكر أن هناك مثابرة وسعيا أيضاً من العاطلين عن العمل ولكن كما هو معروف وملاحظ في سوق العمل النمساوي أن الباحث عن العمل عليه أن يكون أكاديميا في اختصاصه، بغض النظر عن نوع الاختصاص، مع ذلك فكثير من المتخصصين الأكاديميين يلاقون صعوبة في البحث عن العمل الملائم. فعليهم أولاً معادلة شهاداتهم وتقديم امتحانات وربما إعادة الدراسة بالكامل من حيث كم الامتحانات، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ رب العمل يفضّل غالباً خريجي جامعات النمسا ومن الحرفيين يفضل دراسة الاختصاص في النمسا.
مما لا شكَّ فيه أن هذه الخطوة تحتاج إلى كثير من الوقت الذي ربما لا يملكه بعضنا من جرّاء ضغوط الحياة وصعوبتها وبعض آخر ليس لديه الصبر أو الأمل.
كثيرون من هؤلاء يشعرون بالضياع المهني فماذا يفعلون لتخطي هذا العائق؟ الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى وقت كبير وجهد نفسي عظيم، فإن لم يلجأ هؤلاء إلى “استشاريين في المجال النفسي والاجتماعي” لدعمهم من خلال توجيه أسئلة اختصاصية وهادفة لمعرفة السبل لممارسة الأعمال قد يدخلون في حالة من الاكتئاب التي تفقدهم ثقتهم بأنفسهم.
هذه النسبة من اللاجئين يتفاقم وضعها النفسي سوءًا حيث ينشط المرض النفسي الذي تحدثنا عنه سابقاً، لأن من طرائق علاجه أن يكون لدى المصاب به نشاط وعمل وبرنامج روتيني.
إنه موضوع شائك للغاية ولكن علينا أيضاً الإقرار بأنَّ هناك نماذج من اللاجئين الناجحين في سوق العمل وفي اختصاصات ربما مغايرة تماماً لاختصاصاتهم السابقة شقوا طريقهم بالعمل المتواصل ووضعوا مشكلاتهم جانباً وتحدوا الجميع.
وعلى هذه الفئة من اللاجئين “الباحثين عن العمل” الذين يشعرون بالضياع المهني النظر إلى نصف الكأس الممتلئ فقد كسبوا خبرات وتجارب ولغة جديدة في خلال السنوات الماضية.
عندما تسأل الشخص المعني بالموضوع يقول لك: “نحن لم نفعل شيئاً سوى أننا أضعنا سنوات من عمرنا هباءً”. أجل نحن البشر وبخاصة اللاجئين نحتاج إلى ما هو ملموس وإلى شهادة الجميع كي نرى إنجازاً ما لنا.
على الجميع أن يعرف ويقر بأنَّ ما ينجزه اللاجئ هو شيء عظيم بكل ماتعنيه الكلمة، لأنَّ هذا الإنجاز هو مزيج من التعب الجسدي والذهني ومشكلات الحياة وضغوطها. علينا أيضاً أن نفهم مزاجيتهم وغضبهم وربما تناقضاتهم لأنَّ هذه نتائج طبيعية لما عاشوه ومروا به.
بروكار برس