عمر قدور

مع تشكيل اللجنة الدستورية ظهرت إلى العلن مخاوف شريحة واسعة من مؤيدي الثورة، مخاوف تتعلق أساساً بطريقة تشكيل اللجنة، وباعتبار مسارها بديلاً عن مسار الانتقال السياسي تحت مظلة الأمم المتحدة. ثمة أيضاً مخاوف مشروعة تتعلق بطريقة تشكيل اللجنة، وبعدم وجود ثقة بالثلث الذي يمثل المعارضة، وأيضاً بالثلث الذي يُفترض أن يمثل المجتمع المدني ويضم بين أعضائه موالين معروفين للأسد. أقل هذه المخاوف يتعلق بكون عمل اللجنة مزيداً من إضاعة الوقت، مع الإيهام بأن العملية التفاوضية تسير بين المعارضة والأسد، إلى أن تقرر قوى الخارج النافذة التسوية التي تناسبها والتي ستكون أقوى من أي دستور.

إذا تجاوزنا كل ما سبق، أي كل ما ينصرف إلى التركيز على اللجنة، لا بد من الاعتراف بوجود مخاوف أكثر ديمومة، ومن المستحسن طرحها بكل صراحة من قبل أصحابها، لأن نقاشاً من هذا القبيل ينقل الحوار السوري-السوري إلى مواجهة القضايا الرئيسية، وإن لم يكن هذا النقاش مثمراً الآن بسبب إفلات القضية السورية من أيدي السوريين. ننطلق هنا من أن النقاش في الشأن الدستوري لصيق بتصور كل طرف عن مستقبل سوريا، وهو لصيق بالعقد الاجتماعي المقبل بين السوريين إذا قرروا “وأتيح لهم” العيش المشترك المستقل.

ما يُسمى العقد الاجتماعي في أي بلد يعكس الإرادة السياسية للأفراد والجماعات، ومن ثم يقوم حقوقيون بصياغة مجموع الإرادات والتفاهمات بنصوص دستورية. من دون هذا التلازم بين الجانبين نكون بالأحرى أمام نصوص قانونية تعكس تغلّب أو هيمنة مجموعة ما على باقي السكان. لقد خبرنا مثلاً الدستور الأسدي، المفصّل على قياس الاستبداد بحيث يحتكر الطاغية جميع السلطات بحكم الدستور، فضلاً عن احتكاره الفضاء العام كله بقوة البطش. لم يكن من المصادفة أن يؤدي الواقع البعثي ومن ثم الأسدي إلى الانفجار الكبير الذي رأيناه، فما هو موجود دستورياً وعملياً لا يعبّر عن تعاقد السوريين أو إراداتهم، والدرس المستفاد هو أن أي دستور لا يعبّر عن ذلك سيكون مولِّداً لعنف مستقبلي، لأن العيش بالإكراه غير قابل للديمومة مهما طال أمد هيمنة فئة ما.

إذاً، أول المخاوف الحقيقية من الدستور المستقبلي، وهذا لا يتعلق باللجنة الحالية، هو الخوف من أن يعكس الدستور هيمنة فئة ما على باقي السوريين، ولو أتت الهيمنة هذه المرة عبر صناديق الاقتراع. والحق أن هذه المخاوف هي على مستويين؛ أولهما أن يُكتب دستور يكرّس أصلاً منطق الهيمنة، بحيث تبدو الأخيرة قانونية تماماً، وعليه لا تنقصها الشرعية الأخلاقية. المستوى الثاني هو أن تنقلب فئة عبر صناديق الاقتراع على الدستور الذي أوصلها إلى الحكم، بدعوى أن الدستور غير مقدس ويمكن للشعب الذي اقترع على إقراره أن يقرّ دستوراً آخر متى شاء.

لنعترف أن التعدد المذهبي والإثني له أثر سلبي من حيث تعميم أجواء عدم الثقة بين كتلة واسعة من السوريين، وقد أدى الحكم الأسدي المديد دوره في تعزيز انعدام الثقة، وكان تغييب مفهومي الوطن والمواطنة سبيلاً لجهل السوري بالآخر السوري، فسادت تنميطات بين السوريين هي بمثابة جدران سميكة لن يكون كسرها سهلاً وسريعاً. من هذه التنميطات أن الأغلبية العددية السنية هي متدينة ومحافظة، وعندما يُتاح لها الحكم ستنشئ حكماً إسلامياً سنياً لا يمكن منازعتها على تغييره بسبل ديموقراطية. منها أيضاً أن الأكراد انفصاليون، وأي نص دستوري يلحظ حقوقهم بوصفهم القومية الثانية في البلاد سيعزز طموحاتهم الانفصالية، وسيشجع إثنيات أخرى على المطالبة بوضعيات موازية لوضعهم، حتى إذا لم يكن لتلك الإثنيات حركة سياسية ومطالب على غرار الأحزاب الكردية التي تنشط منذ ما يزيد على ستة عقود. وبالطبع سنرى في المقلب الكردي تلك النظرة المتشائمة التي تتوجس من عدم انعكاس التغيير على الأكراد، لأن الأغلبية العددية العربية ستستأنف الممارسات البعثية أو تزيد عليها.

لقد أخذت مسألة الجماعات السورية حيزاً أوسع من الاهتمام والانكشاف إثر انطلاق الثورة، ولا حاجة للتذكير بأن الخطاب الطائفي للأسدية هو أول من بادر إلى إذكائها. لكن رغم تقدم الجماعات على حساب الأفراد، وهذا ما لمسناه أيضاً بتراجع كثر عن مطالب الثورة الأولى بوصفها مطالب مواطنة متساوية للأفراد، رغم ذلك ينبغي تذكر حقوق الأفراد التي يجب أن تعلو على حقوق الجماعات. هنا يظهر الخوف من دستور يكرس حقوق الجماعات على حساب الأفراد، وأحد التجليات المعروفة هو نظام المحاصصة الطائفية. في الواقع لا يمكن اختراق الجماعات الأهلية إلا عبر قوانين تعلي من حقوق الفرد “بصرف النظر عن الجنس”، وتضمن تالياً تشكيل مجموعات أو أغلبيات جديدة على أسس مدنية أو سياسية.

إن سؤالاً يعود ليطرح نفسه: إذا كتبنا دستوراً يلبي طموحات السوريين، كأفراد وجماعات، من الذي يضمن عدم الانقلاب عليه؟ هذا خوف أساسي لا تكون الإجابة عليه بالعموميات، لأن تحصين العقد الاجتماعي الجديد هي جزء من إبرامه. ثمة اقتراحات يقدّمها قانونيون من نوع الاتفاق على مبادئ فوق دستورية، والأخيرة أيضاً معرّضة للسؤال عن الجهة القادرة على حمايتها، إذا ما قررت فئة ما الانقلاب على الدستور وعليها. مع الأسف لا نستطيع الاستئناس بتجارب قريبة جغرافياً، مثل الدستور التركي الذي ينص على تولي الجيش حمايته، فنحن عشنا تجربة مريرة مع الجيش منذ الاستقلال، وإعادة تأهيله تتطلب وقتاً طويلاً فوق انعدام الثقة بالنتائج.

واحد من أكثر الإجابات تكراراً عن السؤال السابق أن الشعب هو الذي يحمي الدستور عندما يكون ملبياً لمصالحه، إلا أن الإجابة العمومية غير كافية مع تراجع الثقة بمفهوم الشعب نفسه، بخاصة في حالتنا التي عانت تمزقاً هائلاً. لعل هذه الإجابة تأخذ منحى عملياً مع تمكين الشعب من السلطة، بمعنى توزيع السلطات من أعلى الهرم إلى أسفله، فالشعب “أي شعب” قد لا يكون قادراً على الدفاع عن سلطات لا يمتلكها بقدر دفاعه عن سلطات يمارسها فعلياً. إن مفهوم اللامركزية قد يأتي هنا لا ليكون مدخلاً للعدالة في توزيع السلطة فحسب، وإنما أيضاً مدخلاً لحماية الديموقراطية نفسها عبر تمكين شريحة أكبر من الدفاع عنها، وأيضاً بتبديد مراكز قوى السلطة بحيث لا تعود قادرة على الانقلاب على الإرادة الشعبية.

ينبغي ألا ننسى أنه من أكبر المخاوف التي أعقبت الثورة كون السوريين أمام استحقاق تأسيسي بكل معنى الكلمة، وكلمة الدستور في حالتنا مثقلة بكل مخاوف إنشاء الكيان السوري الجديد، ومنها ما لم يتم التطرق إليه في هذا الحيز الضيق. لا ننسى أيضاً أن الكيان السوري، إذا أتيح للسوريين تقرير ما سيكون عليه، هو مختلف عن الكيان الموروث من حقبة الانتداب، لأن لحظة التأسيس الجديدة محمولة على وعي مستجد بالحقوق، وفي جزء منه على الأقل يساير تطورات المنظومة الحقوقية العالمية. ينتهي الخوف باتفاق السوريين على تبديد المخاوف المتبادلة من دون نفاق أو إكراه، والدستور الأفضل هو الذي يلحظ مخاوف الجميع، وهو ليس بالدستور المستحيل كتابته على القانونيين، لكن بعد توفر الإرادة والظروف كي يجلس السوريون ويطرحون مخاوفهم على الطاولة، ومن ثم الاتفاق على مستقبل بلا خوف.

بروكار برس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *