فايز سارة

2019/11/23

ليس من باب المبالغة القول، انه لم يسبق على مدار العقود الأخيرة، أن عاش العالم موجة عارمة من الغضب، تماثل الموجة الراهنة، والتي تمتد جغرافياً عبر قارات العالم، وتأخذ أشكالا مختلفة في التعبير عن غضب المنخرطين فيها شعوباً وجماعات، وتجعلهم يذهبون في أشكال متعددة فيها الاحتجاج الصامت والاعتراضات الناعمة وصولاً إلى التظاهر والاعتصام، فيما ينخرط بعضهم في أعمال عنف متعددة المستويات، كما تتعدد الأسباب وتتنوع، لكن مع قاسم مشترك وجوهري، أساسه اختلال العلاقات السائدة في عالم اليوم ومنها العلاقات بين الدول ومثيلاتها مع المؤسسات الدولية من جهة وعلاقات الشعوب مع أنظمتها من جهة أخرى.

آخر موجات الغضب الواسعة في العالم، حدثت قبل ستين عاماَ، واستمرت نحو عشرة سنوات ما بين ستينات وسبعينات القرن الماضي، وعبرت الموجة عن نفسها وجمهورها بأشكال مختلفة، شملت فورة ثقافية ومظاهرات واحتجاجات، واعتصامات وأعمال عنف، وتداخلت في مسبباتها عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وجدت لها عناوين محلية للتعبير عن نفسها بينها الاحتجاج على الهياكل الاجتماعية السائدة والأنظمة التعليمية المتبعة والظلم الاجتماعي والسياسي ولا سيما الناتج عن الحروب والدكتاتوريات العسكرية، وتصاعد سياسات اليمين والنزعات النازية والفاشية والعنصرية، وشملت موجة الغضب عشرات من الدول منها رأسمالية وأخرى شيوعية، وأخذت في طريقها بعض “دول العالم الثالث”. فهزت كيانات دول مثل فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وإيطاليا، وكسرت تشدد النظام الأمني الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا لمواجهة ربيع براغ، ما دفع السوفيات للتدخل هناك بأقصى قدر من القوة، وهزت بعنف شديد دولاَ ذات أنظمة شمولية عالمثالثية منها مصر والجزائر والمكسيك، وتسببت الموجة في إحدى جولاتها في آخر هذه البلدان بمقتل خمسمئة من الغاضبين.

بين موجة غضب ستينات القرن الماضي وموجة الغضب الحالية عامل مشترك كبير هم الغاضبون من صناعها الذين وإن اختلفوا في بعض أو كثير من تفاصيلهم، فهم الذين أطلقوا في الماضي، ويطلقون اليوم إشارات الإنذار للعالم كله بما فيه من هيئات ومؤسسات وحكومات وشعوب ونخب وجماعات سياسية ومدنية، بأن العالم أصبح في خطر كبير، بين مؤشراته انقسام حاد، وصعود قوى اليمين والتطرف والعنصرية واضطهاد اللاجئين، وتكريس سياسة خروق حقوق الإنسان، وإطلاق الحروب الأهلية وعمليات التهجير، وتصعيد عمليات النهب والتجويع، وتعميم الفساد بجعله سياسة رسمية في عشرات الدول، وتنامي الصراعات الإقليمية والمحلية، وبعضها وضع العالم على حافة حرب مدمرة، وسط سياسات شعبوية، تكاد تكون خارج العقل والمنطق، يرتكبها زعماء يتولون قيادة دول عظمى مثل الرئيس الأميركي ترامب والروسي بوتين، وزعماء لدول مارقة وعنصرية وأخرى محكومة بطغم تمارس الإرهاب وتدعمه منهم رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ -أون، ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، والمرشد الإيراني علي خامنئي وحلفائه في سوريا بشار الأسد، وفي لبنان زعيم حزب الله حسن نصر الله، وقادة الميليشيات في العراق واليمن.

تجسد ملامح الصورة، بعض أسباب الغضب العالمي الراهن. ولئن كان الغضب نادراَ لأسباب عامة منها التهاون الدولي إزاء الجرائم التي يرتكبها الطغاة على نحو ما يفعل تحالف الأسد بوتين وخامنئي في سوريا، وما تفعله إيران وميلشياتها الحاكمة في العراق، أو إزاء ما يصيب اللاجئين في لبنان وتركيا واليونان، فان الغضب أكثر ما يظهر على سياسات، تتابعها حكومات ضد شعوبها ومنها ما تفعله الصين بمواطنيها من الإيجور الراغبين بتقرير مصيرهم، وسعي بكين لإخضاعهم مما ولد غضباَ إزاء سياسة حكومتهم، وثمة غضب أوسع وأشد عنفاَ يتصل بسياسة حكومة هونغ كونغ مع مواطنيها، ومحاولة إخضاعهم للقانون الصيني في وقت يصرون فيه على حقوقهم وحرياتهم، مما دفع إلى صدامات وأعمال عنف، حولت الجزيرة مؤخراً إلى ساحة قتال بين قوات الحكومة والمتظاهرين.

وسجل العراق ولبنان في الآونة الأخيرة، أوسع موجة غضب، تحولت من احتجاج على فرض ضريبة في لبنان، واحتجاج على الفساد ونهب موارد الدولة في العراق إلى مطالبة بإسقاط النظام، وإقصاء النخبة الحاكمة والسائدة في البلدين، فيما أدى فرض زيادة في أسعار الوقود في إيران إلى اندلاع موجة غضب عمت أكثر من خمسين مدينة في أسبوع واحد، رفعت فيها شعارات إطاحة سلطة رجال الدين ومرشدهم الخامنئي.

وبخلاف موجات الغضب العنيف المكرس في هونغ كونغ وايران والعراق ولبنان وفي سوريا التي يلفها الغضب من الجميع، فان غضباَ كامناً يعشعش في غالبية بلدان أوروبا نتيجة الانقسامات الحادة، التي تعيشها في الخلافات بين اليمين واليسار وصعود الحركات النازية وارتفاع حدة التطرف إضافة إلى الخلافات حول قضايا الهجرة واللاجئين والشراكة الأوربية، وهو حال الأغلبية الأوربية بما فيها ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، وقد خالفتهم فرنسا في السنوات الأخيرة بتعدد حركات الاحتجاج المطلبية، وصولاً إلى الاندفاعة الغاضبة ل”ذوي الستر الصفراء”، والتي بدأت في العام 2018 احتجاجاً على زيادة أسعار الوقود، وتراجع القدرة الشرائية، ثم تحولت نحو مطلب استقالة الرئيس إيمانويل ماكرون وسط أعمال عنف، تركز اغلبها في باريس.

ووسط الموجة العامة، كان من الطبيعي، أن يظهر غضب في الأميركيتين. ففي الولايات المتحدة، يتواصل غضب يحيط بالرئيس ترامب وسياسته مراوحاَ بين الغضب المبطن والمعلن، وقد عبر عن نفسه مرات، آخرها في التوجه نحو إقالة الرئيس، وبجانب هذا النمط، فان غضباً مفضوحاَ وواسعاَ، توالى مؤخراَ في اثنين من بلدان أميركا اللاتينية، أولهما تشيلي الذي شهدت عاصمته ومدن أخرى مؤخراَ تعبئة غير مسبوقة احتجاجاً على التفاوت الاجتماعي، شارك في تظاهراتها السلمية أكثر من مليون شخص بعد مظاهرات عنيفة وعمليات نهب إثر إعلان زيادة رسوم مترو سانتياغو، والبلد الثاني فنزويلا الذي يشهد صراعاً على السلطة وسط أزمة اقتصادية وعقوبات أمريكية قاسية، ما خلق بيئة لغضب شعبي واسع تجسده حركة احتجاج وتظاهر لإطاحة الرئيس نيكولاس مادورو المتهم بتزوير الانتخابات الرئاسية.

موجة الغضب، التي ينخرط بها غاضبون غالبيتهم من الشباب، بدأت أولى مؤشراتها في موجة الربيع العربي قبل تسع سنوات، لتمثل إنذارات معلنة لكوارث يغرق فيها العالم، لا تناقض طموحاته إلى الأفضل فحسب، وإنما تهدد استمراره ووجوده، ما يتطلب تحركاَ جدياَ فاعلاً ومسؤولاَ في المستوى الأممي وفي مستوى دول العالم لسماع صوت الغاضبين وإيجاد حلول ومخارج للأزمات القائمة قبل فوات الأوان.

بروكار برس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *