ميشيل كيلو

بعد إسقاط سلاح الجو التركي طائرة سوخوي ٢٤ الروسية في تشرين الثاني من عام ٢٠١٥، مرت العلاقات التركية الروسية في مراحل ثلاث.
ـ مرحلة أولى شهدت توترا أنذر بنشوب حرب بين الدولتين، دأبت خلاله الطائرات الروسية المقاتلة على الانطلاق من مطار حميميم وانتهاك المجال الجوي التركي، بالتزامن مع عقوبات اقتصادية مؤثرة فرضتها موسكو على أنقرة، خفضت بشدة حجم التجارة بين البلدين، وأمرت ملايين الروس بمغادرة تركيا ومقاطعتها سياحيا، ووصل الأمر، أخيرا، إلى قيام وحدات بحرية روسية باطلاق النار وهي تعبر مضيق البوسفور، وسط تصريحات نارية تذكر بما أطلقه الاتحاد السوفياتي من تهديدات بغزو اسطنبول في أواسط خمسينيات وتسعينيات القرن الماضي. هذه المرحلة دامت قرابة عامين، وانتهت برفع العقوبات عن انقرة عام ٢٠١٧، بعد اعتذار وتعويضات قدمهما اردوغان لذوي ضحايا الطائرة. بنهايتها، وضع حدا لحقبة تذكّر بالحرب الباردة، وسياسات حافة الهاوية.
ـ مرحلة ثانية: ناست بين قطبين، أولهما، بداية تخلي تركيا عن حلف الأطلسي، بسبب ما تركه موقفه إبان الأزمة مع روسيا من شعور بالخيبة لديها، من جهة، وثانيهما إعادة النظر في خيارات انقرة، كأنها انتبهت فجأة إلى التحول الجذري في الوضع الدولي بعد انهيار السوفيات، وإعلان واشنطن قيام نظام دولي هي قطبه الوحيد، سيخضع له الجميع، لا فرق في ذلك بين عدو وصديق. هذه المحطة شهدت صراعا محتدما بين النخبة السياسية والعسكرية حيال البدائل، انتهى بتفكيك سيطرة الجيش على مجلس الأمن القومي القومي، ثم بانقلاب فاشل قيّد دور العسكر في سياسة تركيا الداخلية. بعد هذين التطورين قرر اردوغان إحداث تحول جدي في سياساته، يبقيه أطلسيا في أدنى حدود الأطلسية من دون أن يلتحق بروسيا، ويبني، في الوقت نفسه، علاقات مع موسكو تستند إلى أعلى صور التعاون المصالح المتبادلة، من دون الوصول بها إلى مرتبة التحالف، وإن تضمنت مسائل من طبيعة استراتيجية. هذه الحقبة شهدت انفكاكا محدودا عن حليف، وبناء توافق مشروط مع عدو سابق، بدّل أسلوبه في اصطياد خصومه، من دون أن يبدل اهدافه، وممارسة سياسة العصا والجزرة حيالهم، التي فيها من الجزر أكثر من العصي وبالعكس، وتقوم على وضع الشريك في حال يلزمه بفعل ما يريد بوتين منه أن يفعل، باسم شراكة تأكل تدريجيا من رصيده، وتذهب إلى رصيد الكرملين. لصد شريكه العنيد المخيف، لم يبارح أردوغان موقعه من التحالف الغربي، وإن أعاد تعريفه كي يتسع لعلاقاته مع روسيا، التي ازدادت أهمية وحيوية باضطراد، ما أوقعه بين خطوط الدولتين العُظمتين الحمراوتين، وجعله يستقوي بهذا على ذاك اليوم، وبذاك على هذا غدا، بينما كان يتعلم القفز من خط أحمر إلى الآخر، لتحاشى ضغوط الطرفين، وتوسيع هوامش مناورته التي ما فتئت تضيق، وتضطره للاستقواء بالعسكر لموازنة مواقفه، وحفظ مصالحه في علاقاته معهما، وابتزازهما متى لزم الأمر، الذي لم يلزم إطلاقا.
في هذه المرحلة، بادر بوتين إلى تعميق انفكاك تركيا عن الجناج الجنوبي للأطلسي، بوضع مصالح تركية في سورية في دائرة التزاماته الضيقة، وبالإحجام عن “إزعاج” أردوغان، لذلك، ابتعد عن إدلب، وامتنع عن مهاجمة ” النصرة”، وقبل إبقاء الطريقين الدوليين إم ٤و إم٥ مغلقين، ولم يلح على تشكيل دوريات مشتركة مع تركيا لمراقبة المنطقة العازلة… الخ. ذلك كان نمط التفهم الروسي للسياسة التركية، الذي قام على إعطائها مهلات زمنية تحقق خلالها ما قبلته بالتوافق مع الروس من تدابير حيال المسألة السورية.
ـ المرحلة الثالثة: وفيها فكت روسيا علاقات البلدين الاستراتيجية عن خلافات مصالحهما وسياساتهما في سورية، وخاصة في إدلب، إما لأنها تأكدت أن رد فعل تركيا سيكون محدودا، وقليل التأثير على علاقات البلدين الاستراتيجية ومصالحهما، التي تخطت جميع العقبات، بل وصلت إلى المجال العسكري، عبر شراء تركيا بطاريات إس ٤٠٠ الروسية، رغم تهديدات أميركية / أطلسية بالويل والثبور وعظائم الأمور. هل تعهدت روسيا أن تعوض تركيا عما يترتب على حضورها فيإادلب من عائد سياسي بعد الحل، ولذلك أطلقت العنان لطيرانها ولقوات الأسد وإيران ومرتزقتهما، لقضم أرياف حماه وإدلب واللاذقية وحلب، واستهداف بعض قوات تركية المرابطة في اثنتي عشرة نقطة منها. هذا الفصل بين المستوى الاستراتيجي الثابت، والمستوي الإجرائي لعلاقات البلدين، أنهى تفهم روسيا لموقف تركيا من دخول الأسدية إلى مناطقإادلب، وسهّل، بالمقابل دخول أنقرة إلى شرق الفرات، في حل وسط أعطاها عشرة كيلومترات بدل السبعة التي تسمح بها اتفاقية أضنة من عام ١٩٩٨، وشاركتها موسكو بعشرين من الكيلومترات الثلاثين، التي طالبت بها ، وتعهدت بإخلائها من مقاتلي البيكاكا وأسلحتهم الثقيلة، في مقايضة محتملة تشبه ما سبقها في حلب ومناطق سورية أخرى، مكنت اسطنبول من الدخول إلى الأراضي السورية من أجل الحفاظ على أمنها القومي، كما قال الرئيس أردوغان في أكثر من مناسبة، بتفهم روسي أميركي جعل من تركيا شريكا في منطقة لن تكون هي الطرف الأقوى ، وتاليا المقرر فيها، وقد تهدد أمنها القومي أكثر مما يهددها حزب البي كاكا، كأن تفصل موسكو بين مستوى علاقات الدولتين الاستراتيجية،وسياساتهما الإجرائية شرق الفرات، حيث يعتقد اردوغان أن بوتين لن يقدم على الغدر به، لحاجته إليه ضد الأطلسي، ولأن علاقاته مع تركيا ، ووجوده العسكري في سورية هما إنجازه السياسي الوحيد خلال نيف وعشرين عاما من الحكم، وبوسع تركيا الضغط عليه فيهما كليهما.
هل هناك مرحلة رابعة في سياسات أردوغان تخرجه من الخطوط الحمر الأميركية الروسية، وتنهي حاجته إلى الجلوس بين كراسي الصديقين اللدودين؟ وهل يقرر الالتزام بخط أحمر واحد كي ينجو من آخر، فيخسر موقعه بين القوتين، الذي يرغمه على التعاون مع الروس لتحسين أوراقه في واشنطن، ومع واشنطن لإفهام الروس أن أميركا حليف وهم شريك وإيران صديق، والشريك ليس كالحليف، وإن كان الطرفان هما اللذان يقرران من يكون حليفهم وشريكهم أو لا يكون؟

بروكار برس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *