من جديد، تصبح عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاهتمام بالشأن السوري أمراً ملحّاً، ليس استجابة لدعوة طرف سوري يرى في حضورها القوي ضرورة ماسّة، بل استجابة لدعوة الأطراف الإقليمية ذات المصالح المتصارعة على الأرض السورية، ومن جديد أيضاً، يظهر العزوف الأمريكي عن التدخل المباشر في الصراعات البينية للأطراف المتصارعة في الشمال الغربي من سوريا، على أنه عزوف مؤقت، لا يلبث أن يتحوّل إلى انخراط كامل حين يقتضي الأمر ذلك.

ثمة مسألتان لا بدّ من التأكيد عليهما، أولاهما: إن التدخل الروسي العسكري المباشر منذ أواخر ايلول 2015 ، في الشأن السوري، بهدف الحفاظ على نظام الأسد من الانهيار، ومن ثم الشروع بحرب وحشية على السوريين، وليس على الإرهاب كما تزعم موسكو، إنما كان ذلك بتفويض أمريكي، ثم أوروبي، ولم تكن واشنطن ممتعضةً البتة مما ارتكبه بوتين من جرائم وحشية بحق المدنيين السوريين، سواء في حلب الشرقية أو الغوطة أو درعا أو إدلب، ليقين واشنطن بأن المسعى الإجرامي الروسي ربما يستطيع بلوغ الحسم العسكري من خلال الإجهاز على المقاومة المسلحة المتمثلة بالفصائل العسكرية، ولكن لن يكون بمقدوره بلوغ الحسم السياسي للمسألة السورية، أمّا التداعيات الإنسانية للحرب الروسية على السوريين، فذلك ما لا يدخل في حسابات الأمريكان. وثانيهما: عدم اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية على مسعى بوتين في الالتفاف على القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، وكذلك عدم اعتراضهم على التملّص الدائم لنظام الأسد من الانخراط في المفاوضات وتعطيله الدائم لمسار التفاوض، ولئن كان من الصحيح أن واشنطن لم تكن مشاركتها فعّالة أو ذات أهمية في مسار أستانا، إلّا أن حضورها بصفة مراقب إنما يعكس قبولاً، أو على الأقل، عدم اعتراضها على ذلك.

اليوم، وبعد مرور ثلاث سنوات على انطلاق أستانا، وبعد أن قطعت الأطراف

يجد الأطراف الضامنون أنفسهم في أشدّ المواقف تناقضاً، بل ربما ذهب هذا التناقض إلى درجة الصدام المباشر، كما هو الحال بين تركيا وروسيا

الضامنة لمسار أستانا (روسيا وتركيا وإيران) شوطاً طويلاً من التفاهمات، وصلت إلى تشكيل (لجنة دستورية) لصياغة دستور للبلاد، ومن المفترض أن تتبعها خطوة أخرى، هي الدخول في انتخابات جديدة، أقول: بعد هذا الشوط يجد الأطراف الضامنون أنفسهم في أشدّ المواقف تناقضاً، بل ربما ذهب هذا التناقض إلى درجة الصدام المباشر، كما هو الحال بين تركيا وروسيا، وليجد الضامنون أيضاً أنهم لم يخفقوا في ترجمة فحوى أستانا إلى حل سياسي للقضية السورية فحسب، بل أخفقوا أيضاً في إدارة الصراع فيما بينهم أيضاً، الأمر الذي جعل من حضور واشنطن أمراً لا بدّ منه بالنسبة إلى طرفين أساسيين كانا للأمس القريب يفكران بالاستغناء عن الدور الأمريكي.

قد يبدو الاتهام المتبادل بين أنقرة وموسكو، ومحاولة كل طرف أن يرمي مسؤولية عدم احترام اتفاق سوتشي (أيلول 2018) على الآخر، معزوفة خرقاء في ظل سعي كلٍّ من الطرفين (ميدانياً) إلى تعزيز مواقع وجوده، ولئن كانت تركيا لم تفِ بتعهداتها حيال تأمين الطرق الدولية، وتفكيك أو إبعاد أو استئصال جبهة النصرة، وفقاً لروسيا، فإن موسكو، بل العالم أجمع، هو من ساهم في تحويل مدينة إدلب إلى خزان بشري، ليس للمدنيين فحسب، بل لجميع أصناف الفصائل العسكرية التي رفضت المصالحات مع نظام الأسد، وقد توافد هؤلاء من الغوطة ودرعا وحلب الشرقية والقلمون وسواها، بل يمكن التأكيد على أن موسكو كانت حريصة جداً طيلة الفترة الماضية على ألّا تستهدف الفصائل الإسلامية المتشدّدة أو المتطرفة، بل تحرص على أن يبقى هؤلاء أمام المجتمع الدولي قوة علنية ظاهرة الوجود، وليكون وجودهم ذريعة مُستساغة لاستهداف مجمل القوى الأخرى التي تقاتل نظام الأسد، فضلاً عن استهداف المدنيين وبناهم التحتية، بهدف إجبارهم على النزوح، أو عقد المصالحات الموهومة مع سلطة النظام، وذلك انسجاماً مع استراتيجية الروس الرامية إلى استعادة جميع المناطق الخارجة عن سلطة الأسد، وإعادتها إلى سلطة النظام. وفي موازاة ذلك، لم تكن أنقرة جاهلة بما يريده بوتين، ولكنها تريد ألّا يتجاهل بوتين ما تريده هي أيضاً، ولعل تعويل المسؤولين الأتراك على اعتراف موسكو بالمصالح التركية في سوريا هو ما جعلهم يتغاضون عن سياسة أو منهج (القضم) الذي مارسه نظام الأسد منذ اتفاق سوتشي وحتى الآن، وفي ظل غياب أصحاب المصلحة الحقيقية، أو الطرف السوري الفاعل في إدارة الصراع، فإن التداعيات المريرة لمأساة السوريين الذين يموتون وينزحون لم تكن تشغل بال أيٍّ من الأطراف.

لم يعد تجاهل الروس لمصالح أنقرة محصوراً في منطقة محدّدة من سوريا هي إدلب، بل لعلّ الأتراك باتوا على يقين بأن ما يقوله بوتين حول وجوب مغادرة كل الأطراف الأجنبية للأرض السورية، بأنه سيشملهم أيضاً، وإن لم يكن الآن، فربما

ردّة الفعل التركية التي تجسّدت بالتصعيد العسكري والسياسي معاً، لم تخرج بعدُ، عن طورها الطبيعي، أي أنها مازالت مصحوبة باستعداد تركي للعودة إلى تفاهمات جديدة مع موسكو

يكون قريباً، وهذا ما تتداوله وسائل الإعلام الروسية والمسؤولون الروس، فضلاً عن استهداف قوات النظام لنقاط المراقبة التركية، ما أدى إلى مقتل ثلاثة عشر جندياً تركياً وإصابة أكثر من أربعين آخرين.

ما من شك أن ردّة الفعل التركية التي تجسّدت بالتصعيد العسكري والسياسي معاً، لم تخرج بعدُ، عن طورها الطبيعي، أي أنها مازالت مصحوبة باستعداد تركي للعودة إلى تفاهمات جديدة مع موسكو، ولكن هذه الرغبة التركية المتمثلة بعدم اعتبار الحرب هي الحل الوحيد، مقرونة هي الأخرى بمطلب تركي يتضمن عودة قوات النظام إلى ما بعد نقاط المراقبة التركية، ما يعني انسحاب قوات الأسد من مجمل البلدات والقرى التي سيطرت عليها، وأهمها سراقب، وهذا ما هو مُستَبعد أن يوافق عليه الروس، وهذا – أيضاً – ما سيكون أكبر التحدّيات التي تضمرها أي مفاوضات مستقبلية بين أنقرة وموسكو، ولعلّ هذا الاستعصاء المُرتقب بين شريكي الأمس، يدعو أنقرة لعدم الذهاب إلى أيّة مواجهة حقيقية – عسكرية أو سياسية – مع موسكو، دون الرجوع إلى الحليف التقليدي (واشنطن) التي لا ترى نفسها مُلزَمةً بفعل شيء سريع يحول دون مواجهة بين شريكي أستانا، بل إن العبارة التي قالها جيمس جيفري للمسؤولين الأتراك (لقد سبق وقلنا لكم إن الروس لا يوثق بهم) فيها كثير من الاستعلاء، وغير قليل من الشماتة.

قد يكون من الصحيح أن الزيارات المتكررة لمبعوث الخارجية الأميركية (جيفري) إلى تركيا، تحمل كثيرا من الدلالات، ففضلاً عن علاقة الصداقة الشخصية بين جيفري والرئيس التركي أردوغان، فإن المواقف الإعلامية للولايات المتحدة الأميركية ما تزال داعمة للموقف التركي، إلّا أن هذه المواقف لم تتجاوز بعدُ، تخومها المعنوية، وهذا ما عبّر عنه وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إبان لقائه وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، على هامش اجتماع وزراء دفاع حلف الناتو في بروكسل يوم الأربعاء في الثاني عشر من الشهر الجاري، إذ أكّد أكار على ضرورة صدور مساهمات ملموسة من الإدارة الأمريكية.

أغلب الظن أن الانتظار حتى نهاية شباط الجاري، وهي المهلة التي حدّدها الرئيس أردوغان كحدّ أقصى لتراجع قوات النظام إلى ما بعد نقاط المراقبة التركية، تبدو مقرونة بالتريث الأميركي في القيام بأي مبادرة حيال ما يجري في إدلب، بل يمكن الذهاب إلى أن أيّ ترجمة للتصعيد التركي في مواجهة موسكو، ستكون محكومة – من حيث ماهيتها – بالموقف الأمريكي المُرتقب، فهل سيسعف الحليف التقليدي أنقرة في التصدّي للخذلان الروسي؟.

حسن النيفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *