
تتباين مواقف بعض المحللين السياسيين السوريين والمراقبين في تقييمهم للتفاهم الذي جرى بين أردوغان وبوتين في موسكو، وللتنويه أنا استخدم كلمة محللين سياسيين بسبب غياب سياسيين سوريين حقيقيين رغم أن الكثير من هؤلاء يظن نفسه أنه رجل سياسة ويشتغل بالسياسة.
ما يهم في هذا الأمر أن دافع المواقف ينوس بين الوهم الذي يعيشه بعض من معارضي الصدفة الذين ظنوا أنفسهم رجال دولة ورجال فعل سياسي، وبين الإيهام الذي يمارسه بعض المنتمين لتيارات أيديولوجية لا تستطيع أن تفصل بين الحقائق الواقعية وبين فهمها الأيدولوجي للواقع، ولذلك تلجأ لعملية تذويت لكل حقيقة فيغيب الموضوع وراء الذات التي تصبح هي منبع كل الحقائق، والصنف الثالث هو من يمارس خداع الذات في تفسير رغبوي يعطيه شيئا من أمل.
وبعيدا عن ردود الفعل ورغبات البعض وتوهمهم وإيهامهم فإنه لابد من ذكر الحقائق التالية:
1- لا شيء اسمه اتفاق دولي بين روسيا وتركيا فيما يتعلق بالشأن السوري، وكل ما يتم هو تفاهمات تحدد سياستهما بشكل مؤقت، على الرغم من إصرار بعض من أصدقائنا على وصف آستانا وسوتشي بأنهما اتفاقين دوليين، ولقد سبق وكتبت عدة دراسات حول الموضوعين فيما سبق، وعندما أنفي صفة الاتفاق الدولي على كل المذكرات التي توقع بين الطرفين الروسي والتركي في سورية فإن هذا يعود لسببين: أولهما أن الدولتين لا تستطيعان إبرام اتفاق دولي يتعلق بأرض دولة ثالثة، ولذلك لجأ الطرفان للتمويه تحت اسم الضامنون الثلاثة باعتبارهما ليسوا أطرافا أصليين في التفاهمات وإنما ضامنين لأطراف سورية هي التي يفترض أن تكون أصل هذه التفاهمات، السبب الثاني أن الاتفاق الدولي محدد وفق اتفاقية فيينا ” قانون المعاهدات” بشكل ومضمون وتعريف خاص، وبالتالي فإن مذكرات التفاهم رغم أهميتها في القانون الدولي إلا أنها تختلف من حيث الجوهر والموضوع وطريقة الإبرام والمصادقة عن الاتفاقية الدولية، ولو كان ما حدث بين الدولتين في الشأن السوري اتفاقية دولية لكان من الضروري أن يتم المصادقة عليها في برلمان البلدين وهذا ما لم يحدث ولن يحدث نتيجة السبب الأول.
2- مذكرات التفاهم التي تم توقيعها بين روسيا وتركيا فيما يتعلق بالشأن السوري هي عبارة عن عناصر مختلف عليها أو متفق عليها وتقود إلى اتفاق فيما بعد، وهذا دور مذكرات التفاهم أي محاولة تحديد عناصر الاتفاق بحيث يتم لاحقا صياغة هذه العناصر بعد الاتفاق النهائي عليها بشكل اتفاقية دولية، وكما قلت هذا غير ممكن في الحالة السورية بسبب أنه لا يجوز لدولتين أن يتفقا على موضوع يحدد مصير دولة ثالثة، وبالتالي مذكرة التفاهم يستطيع أي من الطرفين أن يتنصل منها لاحقا لأنها بطبيعتها ليست اتفاقا بل هي نوع من خارطة طريق لاتفاق لاحق.
3- إن ما جرى في موسكو اليوم هو تعبير كامل عن لحظة الحقيقة التالية، -وأعرف مسبقا أن هذا الكلام سيغضب البعض- ، والحقيقية التي أتحدث عنها هي : إن التفاهم الحالي هو استكمال لتفاهمات آستانة التي أدت لخسارة الفصائل العسكرية المسلحة ولهزيمتها أمام تحالف الميليشيات المتعددة الجنسيات الذي تقوده روسيا والمؤلف من ميليشيا بشار الأسد إضافة للميليشيات الطائفية العابرة للحدود التي تتبع للحرس الثوري الإيراني، فنتيجة نقص الجهد البشري عند المجرم بشار الأسد قامت روسيا بتثبيت الجبهات عبر تفاهم آستانة مع تركيا وإيران والاستيلاء على المناطق منطقة وراء الأخرى تحت ذريعة عدم القدرة على فتح الجبهات بسبب تفاهمات آستانة وهكذا سقطت كل المناطق السورية بيد ميليشيا بشار الأسد وبقيت فقط منطقتي إدلب وشرق الفرات.
4- نتيجة خوف روسيا من تداعيات قانون سيزر الذي ستبدأ مفاعيله في الشهر الخامس تحركت في إدلب لتحقيق ثلاثة أهداف، وهي : تبديل طبيعة الصراع في سورية من خلال تبديل أطرافه وتصوير الصراع أنه صراع بين دولتين ” تركيا وسورية” وليس صراعا داخليا بين شعب ونظام مستبد أو بين فصائل عسكرية وقوات النظام، للأسف هذا الأمر أيضا بات بالنسبة لروسية قريب المنال لأن الفصائل العسكرية المتبقية لم تعد سورية من حيث القرار والسياسة والهدف بل باتت أشبه بقوات رديفة للجيش التركي وهذا تقييم موضوعي وليس هجوما على هذه الفصائل، الموضوع الثاني الذي تريد روسيا تحقيقه هو فتح الطرق الدولية والوصول لتفاهمات تسمح للنظام بالوجود في المعابر الدولية، هذا الأمر لم يحدث الآن لكن روسيا ستذهب لتحقيقه لاحقا وتوقعي أن تقوم روسيا باستئناف هذا الأمر أي العمل العسكري بعد رمضان القادم، الهدف الثالث لروسيا هو تأمين مطار حميميم فالوجود الروسي في سورية ضعيف وهش ما دام مطار حميميم تحت النار، وأيضا هذا الهدف لم يتحقق الآن لكن قراءة الحركة العسكرية والسياسية الروسية يشير أن روسيا تسير وفق سياسة الخطوة خطوة ولا تقوم بعمل عسكري كبير وساحق كما هو الحال في المدرسة العسكرية الغربية، بل تلجأ لعملية القصف الطويل والمتعب والذي يهدف أساسا لضرب الحواضن المدنية ومن ثم تقوم بعمل عسكري محدود تقضم من خلاله منطقة تلو الأخرى وبالتالي سيكون هدف روسيا القادم جبل الزاوية وجسر الشغور، مع السماح ببقاء مدينة إدلب تحت السيطرة التركية في هذه المرحلة.
5- من أكثر ما لفت نظري في التفاهم الذي تم توقيعه في موسكو اليوم هو أن وقف إطلاق النار الذي أعلن على طول خط التماس لم يشر من هي الأطراف التي ستوقف وقف إطلاق النار، بل جاء عاما وغامضا بحيث أنه قال وقف الأعمال العسكرية على طول خط التماس …. عدم تحديد الأطراف قضية مهمة جدا لأن تحديد أهمية وقيمة هذا التفاهم يأتي من تحديد من هي الأطراف المخاطبة به، وبرأيي الشخصي فإن هذا الغموض هو فخ جديد وقع فيه الجانب التركي مثل كل الأفخاخ السابقة.
6- إن الحل الوحيد المتاح لنا كسوريين هو أن نكون سوريين فقط بمعنى أن نحدد أولوياتنا من زاوية مصلحتنا الوطنية ومصلحة وطننا وأن نلتزم بأهداف ثورتنا وأن نحترم دماء المليون شهيد الذين سقطوا من أجل الحرية والكرامة وبناء الدولة الوطنية السورية وحن قادرون على هزيمة تحالف الميليشيات الطائفية متعددة الجنسيات ومن بينها ميليشيا المجرم بشار الأسد فقط في حال عدنا سوريين.
محمد صبرا
5\3\2020