مثلما أدى انتشار فايروس كورونا إلى تعطيل الحياة اليومية والتجارة وأثّر في الاقتصاد العالمي، سيكون له نتائج على موازين القوى السياسية الدولية والنظام العالمي، وسيظهر هذا التأثير بعد فترة من انتهاء الأزمة الصحية الحالية، حيث يجمع الكثير من المفكرين على أن أزمة كورونا ستكون شبيهة إلى حد بعيد بحادثة سقوط جدار برلين التي دشّنت عهد نظام جديد تزعمته الولايات المتحدة طيلة عقود.

لندن – غزا وباء فايروس كورونا “كوفيد- 19” جل دول العالم وساهم في شل أبرز القطاعات الهامة التي ترسم ملامح الاقتصاد العالمي، ما سيترتب عن ذلك تداعيات على مستوى بنيوية النظام الذي يقود الأرض منذ عقود وتحديدا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.

ما الذي سيلي “تسونامي” كورونا؟ وماذا سيترتب عن ذلك، هذا هو السؤال الأكثر إلحاحا والذي يشغل الآن بال الكثيرين، علاوة على خبراء الصحة والطب، الفلاسفة والمفكرين، فهل سيبقى الوضع على ما هو عليه؟ وهل سيحافظ النظام الذي تتزعمه الولايات المتحدة على مكانته في فترة ما بعد مرور الأزمة.

أسئلة كثيرة من هذا القبيل كانت محل نقاشات فكرية تطرق إليها مفكرون أيدوا التوجه الذاهب إلى التأكيد على أن ما يجري هو أشبه بعاصفة ستعصف بالقديم وتؤسس لنظام جديد.

في بداية ظهور فايروس كورونا، تعاملت مختلف المجتمعات بنخبها السياسية والفكرية وعامة الناس، مع الوباء على أنه عابر، شأنه شأن إنفلونزا الخنازير والسارس، وأقصى ما ذهبوا إليه في مقاربتهم المقارنة مع وباء الطاعون الذي ضرب أوروبا في القرن الرابع عشر. لكن، بعد فترة وجيزة بدأت النظرة تتغير، فهذا الوباء قلب العالم رأسا على عقب.

هنا، بدأ الحديث يتخذ أبعادا مختلفة، وصار ينظر إلى انتشار فايروس كورونا باعتباره حدثا سيكون له تأثيره التاريخي في صياغة مشهد العالم وستمتد نتائجه على المدى الطويل، حتى أن البعض اعتبره مثل سقوط جدار برلين، من حيث تأثيراته السياسية والاجتماعية، وإفلاس بنك ليمان براذرز من حيث تأثيراته السلبية على أسواق العالم.

نظام جديد

وباء قلب العالم رأسا على عقب
وباء قلب العالم رأسا على عقب

يدعم هذه الرؤية مفكرون وفلاسفة ومحللون إستراتيجيون على غرار فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ، والتي أسقطها البعض بالنظر لما يهدد العالم اليوم واعتبر أنه يشهد اليوم نهاية افتراضية لنظام حكم لعقود وسيتأسس مع نهاية أزمة كورونا نظام جديد.

ومن الباحثين الآخرين الذين اهتم الناس بمتابع قراءاتهم للوضع الراهن يوفال نوح هراري، عالم الاجتماع الذي يعد من أبرز الباحثين المعاصرين الذين يهتمون بالبحث في التطور البشري، وفي علاقة بكل ما يحيط به سياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا واجتماعيا وأيديولوجيا.

كتب هراري في صحيفة “فاينانشال تايمز” أن “العاصفة ستمر، لكن الخيارات التي نتخذها الآن يمكن أن تغير حياتنا لسنوات قادمة”، مضيفا أن “البشرية تقف الآن في مواجهة فايروس كورونا الذي تحول إلى أزمة عالمية… ومن المحتمل أن تُشكِّل القرارات التي يتخذها الناس والحكومات ملامح العالم لسنوات قادمة. ولن تُشكِّل أنظمة الرعاية الصحية لدينا فحسب، ولكن ستُشكِّل اقتصادنا، وسياستنا، وثقافتنا كذلك”.

يوفال نوح هراري: الخيارات التي نتخذها الآن يمكن أن تغيّر حياتنا لسنوات
يوفال نوح هراري: الخيارات التي نتخذها الآن يمكن أن تغيّر حياتنا لسنوات

ويؤكد هراري أن البشرية ستتغلب على هذه العاصفة وسيبقى الناس أحياء، لكنهم سيحيون في “عالم مختلف”. ويؤمن أنصار نظرية المؤامرة بأن ظهور كورونا هو واحد من عدة أسلحة تتصارع بها القوى الكبرى من أجل رسم ملامح هذا العالم.

يؤيد هذا التوجه هانس وارنر سين، أستاذ الاقتصاد في جامعة ميونخ، الذي يعتبر أن الصين نجحت في عبور المرحلة الأولى من المعركة ضد فايروس كورونا المستجد، والتي وصفها بـ”الحرب الشاملة”.

وأشار إلى أن هونغ كونغ وتايوان وسنغافورة واليابان حققت نجاحات ملحوظة في الحد من تفشي المرض، ولا شك بسبب تجاربهم في التعامل مع وباء السارس 2003، في حين توهمت كل من أوروبا والولايات المتحدة بأنهما بعيدتان عن الخطر. ونتيجة لذلك يتفشى الوباء الآن عبر الغرب.

ويذهب في ذات السياق ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، لافتا، في استطلاع أجرته مجلة فورين بوليسي، حول طبيعة التحول الذي يشهده العالم اليوم، إلى أن هذا الوباء سيسرّع من التغيرات على مستوى القوى والنفوذ من الغرب إلى الشرق.

واستجابت كوريا الجنوبية وسنغافورة بشكل أفضل من الدول الغربية، وكان رد فعل الصين فعالا رغم الأخطاء التي ارتكبتها في مراحل التفشي المبكرة. في المقابل، كانت الاستجابة في أوروبا والولايات المتحدة بطيئة وعشوائية مما زاد من تشويه النموذج الغربي.

ولفت نوح هراري إلى تغير حاصل في ميزان النظام العالمي حين تحدث عن غياب صورة القائد التي جسدتها الولايات المتحدة في أزمات عالمية سابقة (مثل الأزمة المالية لعام 2008 ووباء إيبولا 2014)، مشيرا إلى أن الشلل أصاب المجتمع الدولي.

تردد أميركي

نظام جديد سيتأسس مع نهاية أزمة كورونا
نظام جديد سيتأسس مع نهاية أزمة كورونا

خلال أزمة تفشي فايروس كوفيد–19 ، تخلّت الإدارة الأميركية حتى عن أقرب حلفائها عندما فرضت حظرا على السفر إلى جميع دول الاتحاد الأوروبي، ولم تكلف واشنطن نفسها عناء إعطاء العواصم الأوروبية إشعارا مسبقا، ناهيك عن التشاور معها حول هذا الإجراء الجذري. كما صدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب العالم حين أراد الاستئثار بالدواء عندما عرض على شركة أدوية ألمانية شراء حقوق احتكار لقاح جديد لفايروس كوفيد-19.

لذلك، وحتى لو غيرت الإدارة الأميركية سياساتها وتقدّمت بخطة عمل عالمية للخروج من المأزق، لن تستعيد تلك المكانة، وكما يقول هراري “القليل سيتبع زعيما لا يتحمل المسؤولية مطلقا، ولا يعترف بالأخطاء”، ليؤكد بذلك أفول عصر الحكم الأميركي المطلق على العالم، وستكون أزمة كورونا واحدة من أسباب هذا التغيير.

تؤكد على لذلك أيضا “نبوءة” البروفيسور الأميركي ريتشارد دانزيغ، الذي قال في عام 2018، إن “تقنيات القرن الحادي والعشرين عالمية ليس فقط في توزيعها، ولكن أيضا في عواقبها. يمكن أن تصبح مسببات الأمراض وأنظمة الذكاء الاصطناعي وفيروسات الكمبيوتر التي قد يطلقها الآخرون مشكلتنا مثلما هي مشكلتهم”.

ويتجسّد ذلك اليوم بالنظر في تحول كوفيد-19 إلى تهديد عابر للحدود، وكيف جعل كل بلد يضع مصلحته الوطنية أولا. وهذا أيضا من شأنه أن يضع مسار العولمة أمام اختبار سيغير في مسارها ويحقق ما يصبو إليه أنصار الحدود المغلقة وسيلقي بظلاله عليها ويدفع أكثر نحو تنشيط السياسات التجارية الحمائية والشعبوية.

يجادل البعض بأنه لن تكون أي دولة تعمل بمفردها قادرة على التعامل مع الأزمة القائمة، أو مع المشاكل الأخرى التي من الممكن أن تظهر في المستقبل، ولا يمكن التراجع عن الترابط المتين بين الدول في العالم، لكن ذلك لا ينفي، وفق روبن نيبليت، مدير المعهد الملكي البريطاني للسياسات الخارجية (شاتام هاوس)، أن كورونا جاء ليكون القشة التي ستقصم ظهر البعير بالنسبة للعولمة الاقتصادية.

ويفسر ذلك لافتا إلى أن كوفيد-19 يجبر الحكومات والشركات والمجتمعات على تعزيز قدرتها على التعامل مع العزلة الاقتصادية الذاتية. ومن غير المحتمل أن يعود العالم إلى مفهوم العولمة كنزعة مفيدة للأطراف التي تتبناها، والذي ساد مع أوائل القرن الحادي والعشرين.

ودون حافز لحماية المكاسب المشتركة من التكامل الاقتصادي العالمي، ستتدهور بنية الحوكمة الاقتصادية العالمية التي وُضعت في القرن العشرين بسرعة. وسيتطلب الأمر حينها جهودا أكبر من السياسيين للحفاظ على التعاون الدولي وعدم التراجع إلى المنافسة الجيوسياسية العلنية.

أما كيشور محبوباني، الباحث، في معهد البحوث الآسيوية بجامعة سنغافورة الوطنية، فيرى أن فايروس كورونا لن يغير الاتجاهات الاقتصادية العالمية، بل سيسرع من التغيير الذي بدأ بالفعل: الانتقال من العولمة التي تتمحور حول الولايات المتحدة إلى العولمة التي تتمحور حول الصين.

كوفيد -19.. تهديد عابر للحدود
كوفيد -19.. تهديد عابر للحدود

صحيفة العرب

فكرة واحدة بخصوص “كيف سيبدو العالم بعد انتهاء كارثة كورونا”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *