لا يعرف الكثير من أبناء مدينة كفرنبل، جنوب إدلب، أنّ هناك رجل اسمه “أحمد الآسي” كان يضرب المدفع كإشارة لبدء الإفطار في شهر رمضان المبارك.

اعتاد “الآسي” وهو أحد  أبناء المدينة، في كل يوم من أيام شهر رمضان، على ضرب المدفع، كإشارة لبدء الافطار، وهو تقليد  اعتاد عليه الأهالي قبل سنوات بعيدة، إلا أن “الآسي” وقبل وفاته (منذ فترة قريبة) ترك هذه المهنة قبل أكثر من 25 عاماً، وانتهت ظاهرة المدفع الرمضاني، التي يسمِّيها الأهالي في ريف إدلب (الطوب)، منذ ذلك الوقت، لتأتي بعده مدافع كثيرة، ولكن للقتل هذه المرة، وليس لتحديد موعد الإفطار.

المرحوم أحمد الآسي من كفرنبل.. الصورة: أرشيفية

يقول الحاج “أبو محمود” وهو أحد أبناء كفرنبل، إنّ “أحمد الآسي كان يعمل مستخدماً في مخفر الشرطة في المدينة (كانت قرية آنذاك)، وفي رمضان كان يضرب المدفع، لأن هذه المهنة لا يعمل بها سوى موظف عند الدولة”.

المدفع في ريف إدلب، ليس كمدفع دمشق أو حلب، ولكن هو عبارة عن أسطوانة معدنية طويلة، يتم وضع قنبلة دخانية في أسفلها، وتُشعل النار فيها، لتنطلق بعدها بصوت قوي، وتعلن بدء الإفطار.

المدفع في كفرنبل كان تابعاً للشرطة، وكان يوضع في ساحة المخفر

يتابع أبو محمود بالقول: “لم يكن المدفع فقط للإفطار، إنما للسحور، ولبدء العيد أيضاً، وبعض المناسبات الأخرى، إلا أنه اختفى تدريجياً”.

ويعتبر المدفع الرمضاني تقليد تراثي قديم، تناقله الناس في سوريا، جيلاً عن جيل، حتى اختفى منذ سنوات، وفي ريف إدلب كان آخر ظهور للمدفع عام 2013 في مدينتي إدلب، ومعرة النعمان.

ويتوارث هذه المهنة الأبناء عن الآباء، ففي سراقب توارثها شابان عن أبيهم، وفي معرة النعمان كذلك الأمر.

يقول الحاج أبو مصطفى، وهو أحد أبناء كفرنبل أيضاً: “كنا نتجمع في ساحة الضيعة، وننتظر ضرب المدفع، الذي يتألف من أسطوانة حديدية طويلة، يُوضع في أسفلها قنبلة دخانية، ثم يُشعلها ضارب المدفع بالنار، ويضربها، لتعلو أمتاراً في السماء، وفي لحظة واحدة يبدأ عشرات الأهالي المتجمهرين حول المدفع بالانصراف إلى بيوتهم لتناول وجبات الافطار”.

ويضيف: “المدفع في كفرنبل كان تابعاً للشرطة، وكان يوضع في ساحة المخفر، وفيما بعد نقَله أحمد الآسي (رحمه الله)، إلى منزله، ووضعه على سطح بيته، وصار يضرب المدفع من هناك”.

ضرب المدفع مرتبط بضوء يظهر في مأذنة الجامع

أبو سعيد، أحد أبناء معرة النعمان في ريف إدلب تحدث عن تلك الظاهرة بالقول: قديماً كان هناك مدفع نسميه طوب يضرب عليه الحاج سلامو الأسعد للإفطار، والذي كان يعمل حارساً في المقبرة، ويتم ضرب المدفع منها، وكنا نتجمع حوله كلنا، لننتظر لحظة ضرب المدفع، وكثيراً من يتجمع الأطفال، وتعلو الصيحات، والابتسامات، ولكن اختفت تلك الظاهرة قبل الثورة بسنوات، وصار في كل حي جامع، ويُفطر الناس على أذانه.

ظلّ ضرب المدفع في المعرة حتى الستينات، مظهراً احتفالياً، يعبر عن البهجة

ويتابع ضاحكاً: صار عندنا عشرات المدافع التي تقتلنا، ولا حاجة لمدفع الإفطار، لأن منَّا الكثير يموت قبل أذان المغرب، بمدفع قوات النظام، وطائراته. وفيما بعد هُجِّرنا جميعاً من مدينتنا.

وحول الظهور الحقيقي للمدفع في معرة النعمان التي كانت جزءاً من ولاية حلب يقول أحد أبناء معرة النعمان: أغلب الظن أنه جرى استخدامه سنة 1868 بحسب ما نقل لنا الأهل قديماً، ومدفع المعرة كان عبارة عن (ماسورة) لا يزيد طولها عن متر توضع فيها حشوة من البارود بغلاف ورقيّ، وأضيف عليها فيما بعد مساند معدنية حرصاً على عدم وقوعها كما كان يحدث، وجرت العادة على إطلاقها قرب خزان المياه لفترة طويلة لكونه في منطقة تعتبر أعلى نقطة في المدينة سابقاً، وللعلم فقد تعددت المناطق التي يطلق منها، حيث كان يضرب قرب الشيخ حمدان أو في الساطور وهو مكان مديرية الأوقاف اليوم أو خلف خان مراد باشا وربما في ساحة الجامع الكبير واستقر آخراً قرب المقبرة الرئيسية جنوبي المدينة، وآخر ضربة له كانت عام 2013، وبعدها عاد الشخص الذي كان يعمل به، إلى عمله في المقبرة، تاركاً تلك المهنة.

ويضيف: ظلّ ضرب المدفع في المعرة حتى الستينات، مظهراً احتفالياً، يعبر عن البهجة، وكان ضرب المدفع في المعرة مرتبطاً بضوء يخرج من مئذنة الجامع الكبير، ومتى ظهر الضوء ضرب المدفع.

لم يكن المدفع يُستعمل فقط لبدء الإفطار، إنما يُستعمل للسحور، وفي الأعياد، عن هذا يقول الحاج أبو شادي، وهو أحد أبناء مدينة إدلب: كانت البلدية تسلّم الشخص الذي يضرب المدفع حوالي 50 قنبلة دخانية، ليستعملها، وهي تترك معه عشرين واحدة زائدة، في حال لو تعرضت إحدى القنابل للتلف، وفي أول أيام العيد، كان يوضع المدفع وسط المدينة، ويبدأ الشخص الذي يعمل عليه، ويكون موظفاً، بضرب القنابل المتبقية، والتي تكون أحياناً 15 قنبلة، ويتراكض الأطفال فرحين بهذا الجو السعيد.

نشر ناشطون هذه الصورة، وقالوا إنها التقطت في سراقب قبل عشرات السنين

أما في السنوات الأخيرة، فقد اختفى المدفع تماماً في محافظة إدلب، التي تشهد مناطقها مدافعَ من نوع جديد، تطلق بقذائفها على منازل المدنيين بشكل مباشر، وكثيراً ما تصيب سُفرة إفطارهم، كما حدث عام 2013 و2014 في كفرنبل، وكفرعويد في الريف الجنوبي للمحافظة والكثير من مناطق سوريا.

المدفع في دمشق

في دمشق التي ظهر فيها المدفع لأول مرة في عهد أسعد باشا العظم، والي دمشق عام 1742م، عندما ثبتت رؤية هلال رمضان بعد العشاء وضرب مدفع الإثبات عند منتصف الليل، فاستيقظ سكان دمشق وازدحمت الشوارع وفتحت الدكاكين أبوابها وفي مقدمتهم الأفران والبقاليات.

وكان سطح قلعتها أول مكان وضع فيه مدفع رمضان في سوريا كلها، قبل نحو 150 عاماً، لكون السطح هو المكان الذي يشرف على جميع أنحاء دمشق القديمة، لكن في عهد الانتداب الفرنسي تحولت القلعة إلى ثكنة عسكرية للجيش الفرنسي لينقل إلى هضبة قبة السيار المشرفة على ربوة دمشق وبعد اتساع المدينة لم يعد مدفع واحد يكفي فتم وضع مدفع آخر عند باب كيسان قرب باب شرقي.

ضارب الطوب في سراقب قديماً، مصدر الصورة: ناشطون

وفي خمسينيات القرن الماضي تم استبدال المدفع بمدويات صوت كانت توضع في عدد من حدائق دمشق، حيث يتم وضع أسطوانة في أرض الحديقة وتوضع فيها كمية من البارود ضمن قطعة قماشية ويتم إشعال فتيل مرتبط بها، وعندما تشتعل تندفع حشوة البارود عالياً وتنطلق في الجو دون إحداث أي ضرر.

وفي رمضان 2020 ربما بات من الصعب على سكّان الكثير من بلدات ومدن ريف إدلب، استذكار تلك التفاصيل، لاسيما وأنّ شهر رمضان الفائت، شهد أعنف حملة عسكرية نفّذها النظام السوري ضد مدينتي كفرنبل ومعرة النعمان، وبعدها سراقب، وبعد أشهر من تلك الحملة، سيطرت قوات النظام على تلك المدن، فيما هُجِّر جميع سكّانها.

بروكار برس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *