يذكر مؤرخ الأديان الروماني ميرسيا إلياد أن الإغريق منذ أكسينوفان، الذي نقد العبارات الميثولوجية الأسطورية التي استخدمها هوميروس وهزيود في وصف الآلهة، قاموا بإفراغ “الميثوس” تدريجياً من كل قيمة ميتافيزيّة أو دينيّة، فبعد أن وضعوا الأسطورة في تضادّ مع العقل، ثمّ مع التاريخ، انتهت الأسطورة الى الدلالة على “كلّ ما ليس له وجود حقيقيً”. في المقابل، ما زال كثرّ في المجتمع الاسلامي، يعتقدون بالأسطورة أنها هي الحقيقة، وهذا ما يتجلى في كتاب “عجائب الملكوت”* للكسائيِّ، تحقيق محمّد كريم الكوّاز…
تبرز أهمية كتاب الكسائي أنه حافظ على الأسطورة الاسلامية الكبرى، ونقلها إلى متلقي عصره، وسوف تتكرر عند غيره، وتصل الينا في عصرنا هذا. وتوجّه محمد الكوّاز في تحقيقه أنه يسعى الى تفكيك “مضامين الأساطير الفاعلة في واقعنا، وتدرجها في المتخيّل المقدّس، وهو منتجّ انسانيّ، وأن نعيد للعقل فاعليّته التي سلبتها الأساطير، فصار يفكّر من خلالها، فيتعامل مع الغيب على أنّه واقع”… وكان الكسائيّ مثله مثل الذين لا يفرقون بين العالم الطبيعي والعالم ما وراء الطبيعة، فخلطوا بينهما، ونفذوا من الشهادة الى الغيب، ولم يدركوا أن العقل الاسلامي تعامل مع الغيب بالأسطورة، فأنشأ اساطير البداية، وسماها “بدء الخلق”، وأنشأ اساطير النهاية وسماها “الملاحم والفتن، ومشاهد القيامة”، وهي أساطير من ابداع البشر، يصطنعونها لسبب، وليس لله دخل فيها… واساطير الأولين، والاسرائيليات، والأساطير القيمة، ومعها قصص الأنبياء، هي من القصص الديني، الذي لم يحظ بعناية الباحثين، وظل تائها في الساحة الثقافية العربية، وكتب القصص الديني أدباء من الناس، اتجهوا فيها نحو العبرة والموعظة، وخطورتها تتجسد في اتخاذها حقائق مطلقة.

لقد نشرنا مقطعاً من عجائب الكسائي في الفايسبوك من باب الحماسة للقراءة والتعاطي مع النص التراثي كنص أدبي ممتع، لكن كانت ردة الفعل في مكان آخر، ودخلنا في متاهة اتهام النص بالمؤمراتي والمشوّه للإسلام والشيوعي وفي بعض منتديات الانترنت يقولون “رافضي”، مع أن أفكار الكسائي، بحسب ما يكشف محمد الكوّاز، هي نسخة من أفكار سالفة، وتمتد من عصر صدر الاسلام الى عصر المؤلف، وهو من ابناء القرن الخامس للهجرة، كان الباعث على تأليفه، كما أشار في المقدمة، وفي الخاتمة، هو ترسيخ الاعتقاد بعجائب صنع الله، تقديم “الأدلة” على وجودها، مع ذكر اعتراضات الملحدين، ويبدو ظاهراً أن لا يد للكسائي في “عجائبه” سوى الجمع، لكنه كان يقوم بعملية تعتيم وإضاءة، والتعتيم على من يعترض عليه، من خلال “قيل”، فلا يسميه، ولا يشير الى مصدره، والإضاءة لرأيه، وبيانه من خلال “قلنا” التي توحي بالمتكلم العظيم الحاضر في ضمير الجماعة.

والكسائي، محمد بن عبدالله، مغمور ليست له ترجمة في كتب الاعلام، له كتاب آخر “قصص الانبياء”، مشهور من أواخر من نقل عنه القرطبي والنويري والسّخاويّ وحاجي خليفة، يقول الكوّاز بين أن يغفل المؤلف، ويشتهر الكتاب يظهر فعل المضمون وتأثيره، يتجلى سحره في العقول، فينقلها من عالم الطبيعة الى عالم الغيب، تعيش مع العجائب والملكوت، مأخوذة بما لا تعرف كنهه، بالمتخيّل المقدّس، الذي لا رأته عين، ولا سمعت به أذن، ولا خطر على قلب بشر. واستقى الكسائي أساطيره من كتاب “العظمة” لابي الشيخ الاصفهاني، الذي أتاح كتابه للكسائي ان يلتقط عجائب الملكوت منه، وبين العجائب والعظمة وشيجة متينة، فقد كان منطلق أبي الشيخ حديثاً، يروي خروج الرسول على اصحابه، وهم يذكرون عظمة الله، فنهاهم عن ذلك وأمرهم بالتفكير في عظمة ما خلق… فكانت العظمة تنير درب أبي الشيخ، وهو يجول في كل ما خلقه الله، في واحد وخمسين باباً من كتابه وتعني “الكبر والقوّة”، وتثير العظمة العجب والتعجب. ويعتمد الكسائي على المقدسي، الطاهر بن المطهر، في “البدء والتاريخ” وهو يلتقط منه قولاً من أقوال كثيرة، فيرد عليه، كأنه معني به. وعن “جامع البيان تاريخ الرسل والملوك” للطبري نقل الكسائي نقلاً مباشراً من تفسيره، كما في اسطورة “خلق الأرض”، إلى جانب نقله عن “الأسماء والصفات” للبيهقيّ،  و”المسالك والممالك” لابن خرداذبة، و”مسائل عبدالله بن سلام”، و”المستدرك” للحاكم النيسابوري، و”أحسن التقاسيم” للمقدسي البشاري، و”الفتن” لنعيم بن حماد، والـ”سنن” للترمزي، و”الكشف والبيان” للثعلبي… ومن بين المواضيع التي يتطرق إليها، سكان الأرض قبل آدم، أشجار الجنة، نجوم السماوات، خلق الشمس، المسوخ، عذابات القبر، قيام الساعة، ابليس الجن والشياطين… ويلاحظ كريم الكوّاز أن نصوص الكسائي كلية، بمعنى تغطيتها الكون كله، بدايته نهايته، وايضاح مراحله ومفاصله، وتكفل نصّ الكسائيّ ببيان مرحلة الغيب الاولى قبل خلق آدم، ثم مرحلة آدم، الحياة الدنيا، ومرحلة الغيب بعد الموت ونهاية الكون.. وهي نصوص فعّلت المتخيّل في مقاربة المقدّس، وقد استعانت بالاستعارة في تصوير مشاهد المقدّس المختلفة، لقد استعار المتخيل مفردات العالم المحسوس في تصوير العالم غير المحسوس، فكان للكعبة في مكّة كعبة سماوية فوقها، وكان لكل قطرة ماء ملك موكّل بها، ولكل ذرة رمل ملك موكّل بها، وكان لكل شيء في الوجود ملك، فعالم الغيب هو العالم الحقيقي، وعالم الطبيعة هو الوجود الدنيوي الفاني.

وعجائب الكسائي جعلت الكون كإنسان، فهو حي ذو روح، تشبه روح الانسان، يموت كله في نهاية الدنيا كما يموت الانسان، كما أن مفرداته حيّة حياة الانسان أيضاً، فالملائكة لهم وجوه ومناكب وقامات كما هي للإنسان، للقلم قدرة كما للإنسان على الكلام فيقول، وكذلك للنار وغيرها من الجمادات. وهي نتاج فكر بشري، انتجها الانسان بلغته وامكانات تعبيره، لتفسير عالم الغيب الغائب عن حواسه وتوضيح مكوناته. 

الجانب المهم الذي كان ينبغي الاضاءة عليه، والتركيز على اثره وفحواه، هو تحويل النص التراثي المقدّس، إلى نص أدبي متخيّل، تكون غرضيته متعة القراءة، وليس الوعظ الديني والغيبي، تماماً كما حدث في الأسطورة اليونانية، التي تحولت مفتاحاً للشعر والأدب والمسرح وعلم النفس، بينما النصوص التراثية الاسلامية لا تزال تحت وطأة “العقل المقفل” اذا جاز التوصيف.

(*) صدر عن منشورات الجمل ، بعنوان “عجائب الملكوت للكسائي: المتخيل المقدس والأسطورة الاسلامية الكبرى”، دراسة وتحقيق الدكتور محمد كريم الكوّاز.

المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *