مهما اجتهد الفلاسفة وعلماء النفس ومهما حاولوا وبحثوا لتوصيف هذا المرض لن يقدروا على تجاوز لوحة أم جندل التي اختزلت الحالة وأطلقت صرخة في وادٍ لم تُؤْتِ صدىً، فهل نخرج يوماً من كهف “أم جندل” إلى نور الانعتاق؟ ومتى تدرك وضاعَتَها الأبواق؟
لعل واحداً من أقسى الاستحقاقات التي تواجهها الشعوب المقموعة يكمن في أن تعبر عن موقفها حيال قضية، أو تبوح بتفسيرها لأسباب وقوع حدث، أو ترتكب جريمة تحليل واقعة، أو حتى تفكر بتلمس حقيقة تعكس أو تقارب أمراً يخص من بعيد أو قريب قضايا الوطن “وطنها” أو السلطة الحاكمة “مغْتَصِبَة وطنِها” أو أحد مقدسات تلك السلطة قبل أن تطلق هذه الأخيرة قراءتها ومقاربتها التي ستمليها فيما بعد كسراط مستقيم على الشعب الذي يجب أن يعتبرها نطقاً سامياً لا يمكن المساس به أولاً، وتالياً أن يتخذها نهجاً يضاف إلى العقيدة التي أُغْرِقَ فيها من قبل السلطة.
ترى تلك الشعوب تقف عاجزة حائرة في حالة ذهول وعدم تعيين حيال ذلك، لا تعرف كيف تعكس ردة فعلها لأنها لم تعرف بعد ما ردة الفعل التي تلائم السلطة الحاكمة والتي تتماشى مع سياساتها التي لا يعرف الشعب عنها شيئاً، فتتخذ من الصمت ملاذاً بانتظار تجليات السلطة التي ستفرضها على شعبها الذي تؤمن أنه الشعب المطيع المؤمن بعبقريتها وبإلمامها بكل كبيرة وصغيرة في هذا الكون.
في لوحة من لوحات البرنامج التلفزيوني السوري “قصاقيص” الذي يعود إنتاجه إلى العام 1979 تتلاعب أم جندل “سامية جزائري” أثناء مطالعتها للجريدة بردود فعل زوجها أبي جندل “المرحوم فهد كعيكاتي” أثناء قيامه بغسل الأطباق وهي تحاول اختيار مهنة لائقة له (وفي النهاية مهنة تناسبها هي) غير مهنة “اللَحَّام” الجزارة، فتختار كل مرة مهنة وتضفي عليها كل الصفات الحسنة ثم تراجع نفسها وتبدأ بذكر مساوئ تلك المهنة في صعود وهبوط درامي متقن، وفي كل مرة كان أبو جندل يسأل أم جندل إذا كان بإمكانه الرد على سؤالها، وبعد أن تسمح له بالرد يوافق أبو جندل رغبة أم جندل في طور ذكر حسنات كل مهنة لتنقلب موافقته تلك إلى رفض حالَ بدء ذكر أم جندل لمساوئ كل مهنة في خضوع مقيت خالٍ من أي تفكير وغير مشوب بأي تردد، لينتهي الأمر بأن تعود أم جندل بأبي جندل إلى نقطة انطلاقها أي مهنته الأصلية الجزارة.
تضع السلطة شعوبها في دوامة اتخاذ الموقف، وتتلذذ في متابعة حيرتها، ثم تعلن عن موقفها التاريخي الحكيم، وتطلق أبواقها تكبر في السلطة رشاد مواقفها وسداد رؤاها وتوصم بالعار والخيانة من يحيد مثقال ذرة عن تلك المواقف والرؤى.
وكذا يكون فعل السلطة القامعة كفعل أم جندل تماماً، تضع شعوبها في دوامة اتخاذ الموقف، وتتلذذ في متابعة حيرتها، ثم تعلن عن موقفها التاريخي الحكيم، وتطلق أبواقها تكبر في السلطة رشاد مواقفها وسداد رؤاها وتوصم بالعار والخيانة من يحيد مثقال ذرة عن تلك المواقف والرؤى، لكن السلطة تفاجئ أبواقها بعد أن تكون قد نفثت سموم تأييدها وتبريكاتها بصفعة موقف مغاير تماماً للموقف الذي كانت قد تبنته، فتنقلب الأبواق مؤيدة ومباركة الموقف الجديد في مشهد بائس يعكس الانصياع بأبشع صوره.
برز ذلك جلياً في الآونة الأخيرة حيال التعاطي الإعلامي مع انتشار فيروس كورونا في سوريا، حيث ارتأت السلطة أن تعتبر الأمر تافهاً وليس ذا أهمية فزعقت أبواق جوقة الممثلين والإعلاميين بالتندر والسخرية من الفيروس وبعدم الاكتراث به وبعقابيله، لكن السلطة ذاتها بدلت مزاجها فأعلنت ما يسمى “الحظر” ورأت أن تكترث للأمر، فزعقت ذات الأبواق في اتجاه معاكس تماماً وراحت تنشر فيديوهات النصح للمواطنين كي يمكثوا في بيوتهم ويغسلوا أيديهم بالماء والصابون.
مهما اجتهد الفلاسفة وعلماء النفس ومهما حاولوا وبحثوا لتوصيف هذا المرض لن يقدروا على تجاوز لوحة أم جندل التي اختزلت الحالة وأطلقت صرخة في وادٍ لم تُؤْتِ صدىً، فهل نخرج يوماً من كهف “أم جندل” إلى نور الانعتاق؟ ومتى تدرك وضاعَتَها الأبواق؟
الأيام السورية؛ بقلم: نزار غالب فليحان