منذ أكثر من 9 سنوات وسوريا تذبح ببطئ على ايدي عصابة الاسد وحلفائه تحت ذرائع مختلفة منها طائفية ومنها محاربة الارهاب ومنها الحفاظ على شرعية الدولة ولكن كل الطرق تؤدي الى نتيجة واحدة وهي أنهم جميعاً ساهموا بقتل الشعب السوري واجهاض ثورته العظيمة. وايضا ساهم بقتل الثورة كل اصناف المعارضة السياسية والفصائل المسلحة الذين باعوا الثورة ورهنوا انفسهم لاجندات خاصة وحزبية واجنبية غريبة على الثورة ومطالبها النقية وشعاراتها الشعبية الوطنية مثل “الشعب السوري واحد” و “سورية بدها حرية” و “آزادي (الحرية)” ولا “أخوان ولا سلفية” وغيرها من الشعارات الجميلة التي تعكس بعمق مصلحة السوريين بكافة مكوناتهم. وذلك بالرغم من جرائم النظام وتحشيده الطائفي وبالرغم من التنظيمات الارهابية التي ظهرت بشكل مواز تقريبا للثورة من أجل تشويه الثورة ومحاربتها، مقدمة خدمات كبيرة لعصابة الأسد وحلفائه. ألم نسمع بأن الاخوين قاطرجي رجلي الاعمال والشبيحين التابعين لماهر الأسد كانا يشتريان النفط والقمح من داعش وحاليا من قسد ويبيعانها للنظام. ألم نسمع بأن من حمى شركة “ترانس ستروي غاز” الروسية في حقل الشاعر هم مقاتلون من داعش يتحدثون اللغة الروسية.
منذ شهر تقريبا نشهد صراع يظهر بالصوت والصورة في قلب عصابة الاسد بين عائلة مخلوف ممثلة برامي مخلوف وعائلة الأسد ممثلة بجهات حكومية وأمنية تقف وراءها اسماء الاسد وبشار نفسه. ويرتبط ذلك الصراع بلا شك بالصراع الروسي الايراني وامكانية حصول تغيرات في المشهد السياسي السوري قريباً.
وقبلها شهدنا حملة اعلامية روسية غير مسبوقة، من جهات مقربة من الكريملين ومن خبراء روس ذوي سمعة اكاديمية وسياسية ، فضحت عصابة الأسد وكشفت حجم الفساد المستشري في قلب النظام وذكرت بالإسم رموز الفساد وأولهم بشار الذي فقد القدرة على ادارة البلاد وفقد شعبيته المزورة اصلا، وتحدثت عن ماهر الاسد قاتل رفيق الحريري والمهرب والفاسد والموالي لايران وتناولت تلك الحملة الفاسد الكبير رامي مخلوف، الذي يسيطر على 60% من اقتصاد سوريا
وذكروا فاسدين ولصوص اخرين يجلسون على رأس الحكومة الأسدية وينهبون اموال وثروات الشعب السوري. وهؤلاء نفسهم بقيادة بشار المعتوه طبقوا شعار “إما الاسد او نحرق البلد” وهم يقصدون إما الفساد والنهب والسيطرة اللامحدودة للمخابرات ولعائلة الاسد والشبيحة وإما ندمر سوريا. وقد دمروا سوريا وما زالوا يحلمون بادارة سوريا المدمرة فهم لا يعنيهم ان يموت الشعب السوري من الجوع بل يهمهم بالدرجة الاولى نهب المليارات وتهريبها الى الخارج. وهكذا فعلت عائلة مخلوف حيث هربوا الى روسيا وبيلاروسيا ودول اخرى لا يقل عن 50 مليار دولار سرقوها من دم السوريين.
يتساءل البعض حول سر بقاء الاسد حتى اليوم؟
بلا شك فإن رضى اسرائيل هو العامل الأول لانه جر ورائه موقفين امريكي وروسي ملتزمين بأمن دولة اسرائيل كأولوية رقم واحد (لافروف صرح بذلك بوضوح تام أما امريكا فحدث ولا حرج) وكذلك الدعم الروسي الجوي ومن خلال عشرات الفيتو في مجلس الأمن بالاضافة الى الميليشيات الشيعية التي جلبها الحرس الثوري الايراني من كل اصقاع الارض وخاصة حزب الله اللبناني المتوغل بقتل السوريين. والتنظيمات الارهابية مثل داعش وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات الاسلامية المتشددة (التي باعت الثورة).
والقمة الامنية الامريكية الروسية الاسرائيلية الرفيعة التي عقدت في اسرائيل في صيف 2019 تؤكد وجود تنسيق عالي المستوى بخصوص مستقبل سوريا. وهناك توقعات، وأنا أميل اليها، بأنهم اتفقوا على تسليم الاشراف على النظام السياسي القادم في سوريا لموسكو بشرط ان تحافظ، وأن تكون مسؤولة، عن أمن دولة اسرائيل.
ولا ننسى زيارات الوزير كيري في مايو 2015 الى سوتشي ولقائه مع بوتين ولافروف لمدة 7 ساعات وحينها جاء كيري، المتعاطف مع ايران، ومعه حقيبة مملوءة بالخرائط (حينها مزح معه بوتين وقال هل جلبت لنا الدولارات) ويبدو انهم اتفقوا على ملامح لسوريا لعدة اعوام وأن روسيا هي التي تنفذ الخطة المشتركة مع امريكا وجرى ما جرى بما فيها التدخل العسكري الروسي في سبتمبر/أيلول 2015 على مرأى ورضى (وقد يكون بطلب من واشنطن) لعدم السماح بسقوط نظام الأسد قبل ترتيب الأوضاع وايجاد بديل يناسب واشنطن وتل ابيب وموسكو.
ويجب ان نتذكر زيارة الوزير بومبيو إلى سوتشي في مايو 2019 واجتماعه ببوتين ولافروف لمدة 5 ساعات ، وبعدها صرح جيمس جيفري المبعوث الامريكي الى سوريا بأن الروس وافقوا على كل مقترحاتنا والاجتماعات كانت مثمرة جداً. ماذا يعني ذلك؟
بالطبع ذلك يعني الاتفاق على التدخل العسكري الروسي والاستمرار في تدمير سوريا بحجة محاربة الإرهاب التي لم نشهد لها تجسيدا على الارض وانما فقط شعارات طنانة. فقوات التحالف بقيادة امريكا ظلت عدة سنوات (منذ 2014) تدعي انها تحارب داعش ولكن داعش كانت تتمدد وتوسع جرائمها وكذلك روسيا دخلت عام 2015 وركزت كل قصفها على المعارضة المعتدلة اما داعش فخرجت من سوريا بقرارات من اسيادها عندما اتموا تقريبا تدمير البلد.
من يعتقد أن روسيا قامت بكل ما قامت به لسواد عيون الاسد أواي شخصية في النظام فهو واهم (قال لافروف :”لولا موسكو لسقطت دمشق”). روسيا عملت ضمن منظومة تفاهمات مع امريكا. والدافع لروسيا هو فشلها العسكري في شرقي أوكرانيا وكثرة العقوبات الغربية عليها فارادت ان تبرز عضلاتها امام الغرب فتدخلت عسكريا في سوريا بشهية طيبة من قبل الجنرالات والسياسيين ورجال الأعمال الروس وتوهموا حينها انهم بقوتهم العسكرية الهائلة وأسلحتهم الحديثة الفتاكة سيقضون على المعارضة (هم يقولون على الارهاب) خلال عدة اشهر ولكن ها هم يقاتلون على مدى 5 سنوات ولم تنته المشكلة. وكما يقول البعض عدنا الى المربع الأول!
فسوريا بلد مدمر وبشار الاسد رجل هزيل وفاشل وضعيف ليس لديه في خزينة الدولة اموال، وهناك تذمرو اسع وتململ في سوريا كلها . فالاقتصاد مدمر والجوع يزحف في كافة ارجاء سوريا (في المناطق الخاضعة للنظام وخارجها) والصراعات في قلب العصابة الحاكمة بدأ جدياً، والروس بدأوا يتنافسون مع ايران بشكل جدي حول تقاسم المصالح والنفوذ في سوريا وليس لدى روسيا ولا ايران اموال تكفي لاعادة اعمار اقتصاد سوريا وبنيتها التحتية.
ثم أن الجبهة في ادلب تشهد هدوئا ملحوظا بعد الاتفاق التركي الروسي في مارس/آذار الماضي في موسكو، والجيش التركي مستعد لمجابهة أي هجوم عسكري وبالتالي لا يمكن لموسكو ان تغامر بالاصطدام مع انقرة عسكريا ولا أن تغامر بمصالحها وشراكتها الاستراتيجية مع انقرة في مجال النفط والغاز والطاقة النووية وصواريخ اس-400 والسياحة والاستثمارات التي تقدر بعشرات المليارات. ثم ان تركيا كدولة سنية منذ نهاية 2016 عندما سقطت حلب ساعدت روسيا وامريكا في تمرير مخططهم في سوريا، حيث بدأ ماراثون اتفاقيات استانا ثم سوتشي وتكون نوع من التحالف التركي الروسي في سوريا اعطى ثمارا ملحوظة جدا من خلال اتفاقية خفض التصعيد واستعادة تلك المناطق لنظام الاسد، وكذلك من خلال اللجنة الدستورية التي طرحت في مؤتمر سوتشي، والتي تعتبر بلا شك التفاف على مقررات جنيف 1 والقرار 2254 الذي ينص على أولوية تشكيل هيئة حكم انتقالية تعنى بالتغيير السياسي ثم تاتي الخطوات اللاحقة المتعلقة بالدستور و الانتخابات وغيرها.
بالاضافة الى ذلك لا ننسى قانون قيصر الذي سيدخل حيز التنفيذ في شهر حزيران/يونيو ويمكن ان يزعج النظام وروسيا وايران بفرض مزيد من العقوبات على كل شركة او دولة تقدم الدعم لنظام الاسد.
ونذكر تقرير منظمة حظر الاسلحة الكيماوية الذي ادان النظام وقدم الادلة على انه استخدم الكيماوي 3 مرات في 2017 وهذا يعني ان النظام وضامنته روسيا كذبوا على المجتمع الدولي بأنهم نزعوا بشكل كامل السلاح الكيماوي الذي بحوزة العصابة الاسدية، فمازال النظام يملك الغازات السامة ويستخدمها عشرات المرات.
وهناك مؤشر جديد ومهم وهو فتح المحاكم الألمانية لملف جرائم ضباط مخابرات النظام المتهمين بتعذيب وقتل السوريين، وهذا في وقت تجمعت وثائق وادلة كافية لارتكاب بشار وعصابته وعشرات الضباط في الجيش والأمن وغيرها جرائم قتل وإبادة بحق السوريين وأن تلك الملفات قد تقدم في اللحظة المناسبة لمحكمة الجنايات الدولية.
كما أن روسيا داخلياً تعيش أزمة خانقة نتيجة تراجع الخدمات الاجتماعية والصجية والتعليمية والتضييق على الحريات وانتشار الفساد في المنظومة الاقتصادية ونتيجة تدهو اسعار النفط بشكل حاد الى 20 دولار للبرميل علما ان روسيا اعتمدت سعرا للبرميل الواحد من النفط في الموازنة بحوالي 43 دولار وبالتالي فروسيا خسرت وتخسر يوميا مليارات الدولارات نتيجة تدهور اسعار النفط . كما أن عائدات النفط تمثل لا يقل عن 40% من موازنة الدولة. وحتى اسعار الغاز انخفضت وروسيا الاولى في العالم بتصدير الغاز الطبيعي (نقلت وسائل الاعلام مؤخرا اخبارا غريبة بأن استيراد تركيا للغاز الروسي انخفض الى الثلث وهذا يجعل روسيا غير قادرة حتى على تغطية تكلفة انابيب الغاز التي مددتها الى تركيا وهي 7 مليار دولار!)
كما ان جائحة كورونا بدأت تفرز نتائج اقتصادية ومعيشية وسياسية ونفسية ستؤثر كثيرا على الوضع الروسي في الفترة القادمة: فهناك ملايين العاطلين عن العمل ومئات الشركات التي افلست وهناك تذمر وقلق شعبي واضح من نظام العزل الصحي في منازل بلا رواتب وبلا دخل، لدرجة ان 3 اطباء مختصين انتحروا ويقد يكون السبب على اثر الضغوطات النفسية نتيجة العمل المتواصل والارهاق بلا حوافز معنوية او مادية وبلا وسائل حماية من الكورونا. وهناك احتجاجات شعبية في العديد من المدن والمقاطعات بعضها في الساحات وبعضها في الانترنت تطالب بمساعدة الناس وبالحرية من فرض القيود على الناس و حجزها في المنازل بلا خدمات. أما الكريملين مصر على تعديل الدستور بحيث يستطيع بوتين من حكم روسيا لمدة فترتين رئاسيتين (أي لمدة 12 سنة بعد انتهاء رئاسته عام 2024) وبذلك سيكمل ان كتبت له الحياة حوالي 36 سنة في الحكم (راح يغار منه ديكتاتوريو العالم واولهم بشار).
فما العمل أمام روسيا؟
بتقديري تقف موسكو اليوم أمام جدار أصم ومسدود في سوريا. ولا يمكنها الوقوف في المكان ولا يمكنها التراجع ولا يمكنها الاستمرار في العمل المسلح، ويبقى الهدف الوحيد امام موسكو حاليا هو حلحلة الوضع والبدء بأي خطوة يمكن وصفها بالسياسية، وكذلك البدء بإعادة الإعمار لكي تعوض موسكو خسائرها المادية والمعنوية وتجني المليارات من وراء الاستثمارات التي ستقوم بها الشركات الروسية بتمويل من الغرب والخليج.
ولكن اغلب دول العالم ربطت بين تقديم التمويل للإعمار وبين ضرورة التغيير السياسي. فكيف سيقدمون مليارات الدولارات لنظام فاسد مكون من لصوص ومجرمين وقتلة؟
وبالتالي يمكن الاستنتاج بأن موسكو (مجبر أخاك لا بطل) ستُقدم على تنازلات وتعقد صفقات مع واشنطن وتل ابيب وانقرة لرسم معالم تغيير سياسي في سوريا واول ضحية هو عائلة الاسد ومخلوف. فبقاء الاسد في السلطة- كما اشار خبراء روس ايضا- لن يخلق استقرارا ولن يحل الازمة.
فموسكو لم تقم بحملتها الاعلامية صدفة بل لابلاغ النظام بانه لا شيء وان موسكو هي صاحبة القرار وبيدها الاوراق كلها. وكذلك ارادت موسكو ايصال رسالة للغرب بانها جاهزة للبازار على مصير عائلة الاسد فقد انتهى دور الأسد ولعب دوره التخريبي كاملاً وخدم اسرائيل مرة اخرى بعد خدمته لها هو وابوه من قبله 50 عاما بحماية حدودها من اي ذبابة تطير.
ولكل بداية نهاية.
ونحن اليوم جميعا في الشرق الأوسط أما اوضاع جديدة ومستجدات تفرض على الدول تغيير تكتيكها وحتى استراتيجياتها لكي تحافظ على مصالحها واحيانا على ماء وجهها. وهذا هو حال موسكو.
ويبقى السؤال الكبير ما البديل في سوريا؟
هل لدى موسكو وواشنطن بدائل ؟ اعتقد انهم يطبخون طبخة على نار هادئة بسبب الكورونا لكي يقدمونها للعالم ويدعمونها بقرار من مجلس الأمن ويجبرون هياكل المعارضة الفاشلة والنظام الهزيل على الموافقة على تلك البدائل، في وقت يغيب فيه صوت الشعب السوري المستقل، ويغيب صوت الوطنيين السوريين المستقلين. وهذا موضوع يحتاج لوقفة خاصة. وهو مهمات النخب الوطنية الشريفة في هذه المرحلة حيث نجد أمامنا فراغا سياسيا مرعبا من جانب القوى الوطنية الديمقراطية، مقابل انتشار للفكر الديني والقومي المتشدد والظلامي والارهابي.
واخيرا اعتقد انه لا يمكن فرض حل على الشعب السوري لا يراعي مصالحه ولو بنسبة معينة. فنحن لسنا في عشرينيات القرن الماضي حيث فرضت اتفاقيات سايكس بيكو، بل نحن في زمن الانترنت والتواصل الاجتماعي وثورات الربيع العربي وتذوق السوريين لطعم الحرية ولا يمكن ان يقبلوا بالذل والاهانة مرة اخرى مهما غلي الثمن وهم قد دفعوا الفاتورة بأعلى اثمانها ولا خوف على شيء يفقدونه بعد كل التضحيات الجسيمة التي قدموها على مذبح الحرية.

د.محمود الحمزة- أكاديمي وباحث سياسي: كلنا شركاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *